الاثنين، ١٧ ديسمبر ٢٠٠٧

زواج محمود البدوى

زواج محمود البدوى

جاء أحد الأقارب الأبعدين لخطبة إبنة عمه حكمت ، وعلم محمود بالخبر، وأحس بمجرد سماعه بالألم ، فقد كان يحس بأنه يحتجزها لنفسه ، وفاتح عمه حسين فى أول زيارة له ، وبارك الخطوة وشجعه عليها وآل على نفسه أن يساعده حتى بلوغ غايته ويذلل له كل الصعاب التى تعترض طريق هذا الزواج وإتمامه وخاصة مما يصدر عن والدتها ، وطلب منه تجهيز المهر وأن يكون مستعدَا ، فأجاب محمود من فوره بأنه جاهز ومعد نفسه لهذا اليوم .

* * *

قدم محمود إلى عمه عمر فى الإسماعيلية ، وكعادته كان حسن الملبس والمظهر ، وصاحبه فى تلك الزياره عمه حسين ، ورحب والد حكمت بطلب إبن أخيه ، وسمعت حكمت وغمر كيانها السرور الباطن ، ولكن الأعتراضات كانت من جانب والدتها التى دست أنفها فى الموضوع ـ وهذا حقها ـ لسبب فارق السن بينهما ، ولما إنطلق العم حسين فى مناقشات معها ، إرتسم الأسى على وجه محمود وعلق بصره بها وجلس صامتا ، ونظر إليه عمه وتبسم واشار إليه وجلسا على كرسيين فى الصالون الأخر يتحدثان ويرقبان عن بعد ما تسفر عنه المناقشات ، وحكمت ترمق أمها فى جانب من خارج الحجرة وتنصت باهتمام شديد إلى الحوار الدائر بينهما ، فقد كانت أمنيتها وسعادتها أن تتزوجه وتعيش معه تحت سقف واحد ، وتتطلع بشغف إلى إنتهاء المناقشات لتعرف النتيجة النهائيه ، ولكن النقاش والحديث إستمر إلى الساعات الأولى من الصباح ، وأخيرا حسم العم الموقف وصمم على أنه لا رجعة عن إتمام الزواج بعد موافقه شقيقه والد حكمت ، وانصاعت الأم ورضخت للأمر ووافقت ، وهزت الفرحة قلب محمود ، وأخرج المهر من جيب سترته وسلمه إلى عمه عمر .

* * *

رقى والد حكمت إلى رتبه القائمقام ونقل للعمل بالإسكندرية مأموراً لقسم محرم بك ، وفى صباح يوم أثناء وجوده بالقسم دخل عليه أحد العساكر ممسكا بيده طفله صغيره عمرها لا يتجاوز الثمان سنوات وقال له وجدناها ليلا فى الطريق تبكى ولا تعرف شيئا من أمر نفسها وعلم منها أنها من الفلاحين وتعمل لدى أسرة ضربوها فخرجت إلى الطريق، فسألها المأمور عن هذه الأسرة وعنوانها وأسمها ، فقالت .. معرفشى ، فسألها كانوا بينادوكى بإيه ، قالت .. مبروكه .

وتحرر محضر بالواقعة وتسلمها المامور وأرسلها إلى البيت إلى حين ظهور من يسأل عنها (لم يسأل عنها أحد) وظلت فى البيت مع الشغالين (طباخ أسمر اسمه محمد من أسوان ومعه شقيقه الأصغر حسن وعمره سبع سنوات وزايده التى تعتنى بشئون البيت)

* * *

كان محمود يعشق الإسكندرية وكثير التردد عليها ويقضى فيها ليلته بالبنسيون الذى إعتاد أن ينزل فيه كلما هبط المدينه ، وفى الليل يسير بجوار البحر ويجلس على الشط حالما مفكرا ويمتع بصره بجمال الطبيعة ، وتطيب له الجولة الليلية لأنها رياضه عضليه للجسم ويستطيع أن يتبين جمال المدينة بعد أن تنقطع الرجل ، فكان يعرفها ويعرف كل شبر فيها جيداً ، أسماء الشوارع والبنسيونات واللوكاندات ، بدرجة مذهله .

حرص محمود فىالذهاب إلى عروسه ، واصبح يخرج معها ويرافقه فيها والديها للنزهة ، ومن فرط سعادتها وسعادته كانا يحسان بأنهما فى حلم جميل، وكانت منبهره بأسلوب تعامله معها وطريقته فى الحديث وبالكلمات الحلوة الجميلة التى يلقيها على سمعها ، وبعد السير على شط البحر يجلسون فى أحد الكازينوهات ، وبعد إنتهاء السهرة والعشاء فى الكازينو ، يعودون من حيث أتوا ، ويتركهم ويذهب إلى البنسيون للمبيت .

* * *

أخذ محمود فى البحث عن شقة الزوجية بحى مصر الجديدة ـ كانت جميع العمارات بلا إستثناء تعلق يافطة على باب المنزل وفى واجهة الشرفات تشير إلى وجود شقة خالية ، وكان الملاك يحاولون بكل السبل وشتى الوسائل جذب ساكن لها ـ فعثر على شقه فى بناية حديثه (تقع على ناصيه) بالدور الثالث بشارع محمد رمزى (الإمام على سابقا) نمرة 32 بإيجار شهرى عشرة جنيهات وخمسمائه مليم ، وسربها كثيرا لأنها فى منطقة هادئه وبها بلكونه واسعه وفسيحه وتطل على شارعين ، وراقه الهدوء ، ويستطيع أن يجلس يقرأ فيها ويكتب ، وكان السكان حوله خليطا من المصريين والأجانب وسر عمه وزوجته بها كثيرا وبموقعها الجميل ، واستأجرها من أول أبريل 1947 .

نقل العفش من تاجر الأثاث إلى عش الزوجية ، وجاء الخدم من عند والدها بالإسكندرية ، وأشرف بنفسه على تنظيم الغرف وإعداد الفرش ولم ينسى الحجرة الخاصة بالضيوف لمن يهل عليه من الأهل ، وتحدد يوم الزفاف بفيلا عم العروس المستشار محمود بالجيزه يوم 19 مايو 1947 .

حينما علم الخادم الصغير الأسمر ومبروكه للذين يخدمان عند والد العروس بزواجها وإنتقالها إلى القاهرة ، بكيا ، وأصرا أن يسافرا ويكونا معها وفى خدمتها ـ كانا يحبونها حبا خالصا ـ وأبدت العروس رغبتهما لمحمود فلم يمانع وعرض عليها ـ إن شاءت ـ الإبقاء على أم محجوب التى تطهو له طعامه وتعنى بشئون البيت ، فرحبت .

بالشقه صندره فسيحه أعلى الحمام يتم الصعود إليها بسلم خشبى متحرك من المطبخ وبها شباك ، وضع فيها فرش ومراتب وأعدت لتكون مكانا لنوم الشغالين .

* * *

جاء اليوم المحدد للزفاف وقصرت الحفلة على عدد قليل من الأهل والأقارب الموجودين بالقاهرة ، لأن الأسرة لم تزل فى فترة حداد على والد محمود الذى توفى عام 1941 ، ولم تكن بالحفلة دفوف تدق وموسيقى تصدح ومطرب يغنى أو راقصة تحيى الفرح ولمبات تضاء للزينة ، وفى المساء وصل المأذون من قرية الأكراد ، وتم العقد (مسجل بوثيقة الزواج أن الصداق قدره 700 جنيه مصرى حالا ومؤجلاً والحال منه مبلغ 350 جنيها) وبعد تناول العشاء هنأ الحاضرون العروسين وإنصرفوا وإصطحب محمود عروسه فى سيارة خاصة قامت بجوله فى أنحاء القاهرة .

غادر المأذون الحفل بعد العشاء ، وذهب إلى أقاربه المقيمين بحى روض الفرج ، وأثناء سيره هناك إعترضه بعض اللصوص وجردوه من ملابسه ونقوده ، وكانوا رحماء به بأن تركوا له دفتر إثبات الزواج .

* * *

بعد حفلة العرس ، قضى محمود الأسبوع الأول من الزواج بالبيت ، وكان أول من يستيقظ من النوم فى الصباح ، ويستهل يومه ببعض التمرينات الرياضية ويحلق ذقنه ويأخذ حماما سريعا بالمياه الطبيعية دون تسخين فى الصيف لينشط ، ويقرأ بعض آيات من كتاب اللّه ، وتقوم زوجته وتقدم له فنجان الشاى وتعد له طعام الأفطار ، وبعده يعد لنفسه فنجانا من القهوة يصنعه بنفسه ويخرج إلى عمله .

تترقب زوجته عودته من العمل للغداء ، وكانت الفترة التى تعقب الغداء ثقيله على نفسه ، فيستريح ساعة أو ساعتين وفى الأصيل يستمع إلى الموسيقى ويخرج من البيت إلى نادى الجمباز لمزاوله بعض التمرينات الرياضية أو يذهب إلى مقهى بور فؤاد بشارع فؤاد ، فقد كان لا يقابل أحدًا من أصدقائه فى البيت عدا المقربين إليه من أصدقائه الأولين وكان يحرص على ألا يزوره أحد فى مكتبه بالمصلحة ، لأنه ليس مكانا لزيارات الصحاب والأصدقاء وكل مقابلاته تكون فى المقهى ، ويعرف الصحاب المكان الذى اعتاد الجلوس فيه من المقهى ، يشرب القهوة يطالع أو يكتب .. يقول الأديب يحيى حقى رحمه اللّه بصحيفة الأخبار فى 19/2/1986 "كنت أذهب لزيارته وهو موظف بوزارة الماليه ، فأجد على وجهه إمارات الصبر والخشوع ، وكان ذلك فى الخمسينيات تقريبا" ويقول صديق عمره عاشور عليش بمجلة الثقافه ـ عدد نوفمبر 1978 ـ "كنت أزوره فى مقر عمله فلا أجد ورقه واحده على مكتبه، فقد أنجز الرجل عمله كاملا فى الساعات الاولى من الصباح ، الأمر الذى أدهش رؤساءه الكبار وجعله دائما موضع التكريم والاعتبار ـ وقبل الرؤساء الكبار حظى محمود بحب الأرامل واليتامى الذين كان فى خدمتهم دائما والذين يذكرونه بالخير والدعاء حتى اليوم .. إذ وجدوا فيه شيئا فريدًا لن يتكرر ، كان يستشعر مآسيهم باحساس الإديب وقلب فنان"

وكان محمود أثناء جلوسه فى المقهى يتطلع إلى الوجوه ويشاهد الحياة تجرى أمامه ، (وفيها ينسى العمل الروتينى الذى يقوم به فى المصلحة) نم يحمل كتبه وأوراقه ويستأنف تجواله فى المدينة يستعرض ما فى واجهات المتاجر من ملابس وعطور وأدوات الزينة ، ويرى وجوه السائرين فى الشارع والمارين أمامه ، ثم يركب المترو إلى البيت ، أو يتخذ طريقه ماشيا على الأقدام ، وتطيب له هذه الجوله الليلية ليفكر ويتأمل ما حوله ، وقد يجد أثناء سيره فى الطريق بعض المشاهد التى تعذب نفسه فتزيده سخطا ، ولا يجد متنفسا لها غير صبها بالكتابه (غلمان الشوارع يجمعون أعقاب السجاير ـ السكارى والمعربدون ينسلون من الحانات ـ الإنجليز السكارى يصخبون ويعربدون ويتعرضون للاهالى ويشتبكون معهم)

بعد العشاء ينام إذا أحس بالنوم أو يظل ساهرا ويستغرق فى المطالعة ـ كان مغرما بالإطلاع على ما هو جديد وما يدور فى الإنسانية من أحداث ـ غافلا عمن حوله ، ويستلقى بعدها فى ثبات عميق .

* * *

إذا أرادت زوجته شراء بعض الأشياء اللازمه للبيت أو النزهه ، تمر أمام القهوة فى وقت معين متفق عليه ، وحينما يبصر بها ينهض من مقعده وينطلق فى إثرها ، ويمضى معها يسيران أمام الفاترينات مستعرضين الحوانيت ، وبعد الحصول على حاجتها ، يذهبان إلى السينما أو الكازينو وهى مسرورة فرحة وبعد أن يتعشيا يركبان عادة المترو أو سيارة أجره إلى البيت .

وكانت زوجته تحيط بيتها بجو من الهدوء المطلق ، وكان هذا الهدوء يحبب إليه الإقامه فيه جانبا كبيرا من النهار والليل ، فيجلس فى الشرفه يستمتع ويمتع بصره بما يحيط به من المناظر يحمله على التأمل ويكتب .

ويقول محمود .."لقد تزوجت بالطريقه التقليدية القديمه بلا حب .. فعائلتنا الكبيرة كانت تؤمن بزواج الأقارب فى الدرجة الأولى .. وإلى زوجتى وهى متخرجه من الليسيه ، يرجع الفضل فى أننى وجدت الوقت الكافى للكتابه .. فلم تشغلنى بأمور البيت
(1)

* * *

كان بيته محطة للقادمين من الصعيد من الأهل والأقارب ، وإذا أصاب زوجته مرض إنتشر خبر مرضها فى الأسرة ويزدحم المنزل بالرائحين والقادمين ويصبح البيت كخلية النحل ، ويظل فى الليل ساهرا بجانب فراشها وحينما يمن اللّه عليها بالشفاء يخرج معها للنزهة لتسترد كامل صحتها .

* * *

يخرج من غرفته ليلا بعد أن ينام جميع من بالبيت ويتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه فنجانا من القهوة ، فإذا وجد اللمبه (لمبة الجاز) مشتعله تحت دماسه تدميس الفول يطفئها ويعود إلى مكانه من غرفته وكأنه ما فعل شيئا ، وحينما تصحو زوجته فى الصباح لتجهيز الإفطار تفاجأ بانطفاء اللمبه فتعتقد أن الهواء أطفأها ، ولما تكررت عدة مرات ، سألت محمود فطلب منها أن يكون إشعال اللمبة وعمل الفول نهاراً ، أما فى الليل فقد يحدث حريق دون أن يحس به إنسان .

ليست هناك تعليقات: