الثلاثاء، ٢ أكتوبر ٢٠٠٧

سيرة محمود البدوى




محمود البدوى
ســــيرة

بقلم

على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى


تقديم
الدكتور عبد الحميد إبراهيم

الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 25908920








تقديم : بقلم الدكتور عبد الحميد إبراهيم

تقديم

بقلم الدكتور عبد الحميد إبراهيم

قرأت له ولم أره ، سمعت عنه ولم أشاهده .
قرأت له قصصه القصيرة التى كان ينشرها فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى ، وذلك أثناء تحضيرى لرسالة الدكتوراه تحت عنوان "القصة المصرية وصورة المجتمع الحديث " .
وسمعت عنه من الأدباء فى جلساتهم الخاصة وفى أحاديثهم العامة ، وهم يتحدثون عن كبريائه ونبله وبعده عن الأضواء واعتزازه بالنفس .
ثم رأيته يدخل علينا دار الأدباء فى أوائل الستينيات كان مهيبا ، أسمر اللون وجلس بيننا وأقبلت عليه وأنا شاب صغير أحدثه عن قصصه القصيرة من أمثال "رجل" و"الرحيل" و"الأعمى" . سمع حديثى بكل تواضع وقال مالك تنقب عن هذه القصص القديمة والمنشورة فى صحف محفوظة فى دار القلعة فى ذلك الحين . وانتهى الحديث معه وأنا ممتلئ به إعجابا وعرفت لماذا يتحدث عنه الأدباء بكل تقدير واحترام .
* * *
وتأتى سيرته الذاتية التى قام على إعدادها الأستاذ على عبد اللطيف لتكشف لنا عن أبعاد تلك الشخصية الثرية ، ونعرف العوامل التى تضافرت على تكوين شخصيته ، والتى انعكست على فنه القصصى .
تهيأت عوامل كثيرة بيئية وثقافية وتاريخية لتكوين شخصية محمود البدوى.
فهو رجل نشأ فى صعيد مصر ومن أسرة غنية قوية تؤمن بالتقاليد والاعتزاز بالنفس ، وقد امتص البدوى معطيات هذه البيئة وتفاعل معها ، وكون له صداقاته الكثيرة ، وتزوج منها ، وظلت علاقاته معها متنامية حتى أواخر حياته .
هو إذن لم يرفض هذه البيئة كما فعل الكثيرون من أبناء جيله الذين كانوا يتعالون على الفلاحين ، وينطقون بلهجات فيها لكنه أجنبية ، أو على الأقل لكنه قاهرية لكى يثبتوا تفوقهم وتميزهم على تلك البيئات التى يظنها البعض أنها متخلفة ، ويراها البعض الآخر ، ومنهم محمود البدوى أنها تحمل موروثات ثقافية وتعكس امتدادا تاريخيا ، يمكن أن ينطلق منه الأديب وأن يطوره .
ومحمود البدوى سافر بعد ذلك إلى القاهرة ، واختلط بأدباء عصره ، وعقد صداقات متميزة مع الكثيرين منهم ، وخاصة مع محمود محمد شاكر ومحمود تيمور ويوسف السباعى ويحى حقى وأمين يوسف غراب وعبد الرحمن الشرقاوى ، موسى صبرى ، ثروت أباظة ، واندمج البدوى فى البيئة القاهرية التى كانت تزخر فى أوائل القرن العشرين بالنشاط الثقافى الحيوى ، وبالندوات المتعددة وبالحوارات الكثيرة بين النقاد والمبدعين ، ممن كانت تعتز بهم الصحافة الأدبية فى ذلك الحين وتنشر لهم . أخذ البدوى يعيش فى تلك البيئة ، يكتب ، ويترجم ، ويحضر الندوات ، ويراسل الأدباء والأصدقاء .
ولم يكتف البدوى ببيئته الصعيدية ، أو ببيئته القاهرية ، بل تطلع إلى السفر للخارج لكى يكمل ثقافته ، ويثرى من رؤيته . كان الرجل على وعى تام بأن الثقافة يجب أن تكتمل ، وأن تجمع بين الإنسانية والمحلية ، لقد أدرك منذ فترة مبكرة أن المحلية وحدها لا تكفى ، وأن العالمية وحدها لا تكفى ، وأن اجتماع الأمرين هو السبيل الوحيد لتحقيق الأدب الحى الخالد ، كان يدرك أن المحلية وحدها ضيق فى الأفق وقصور فى النظرة ، تجعل الأديب ينظر إلى تحت قدميه، ولا تساعده على تطوير بيئته ، ولا على تطوير الثقافة ، الشعبية والعطاء المكانى المحدود ، وكان يدرك أيضا أن العالمية وحدها قد توقعه فى التجريديات وفى الفلسفات التى تبعده عن أبناء جيله وتعزله عن واقعه الحى، فلا يستطيع معرفة همهمات الجماهير ولا يستطيع أن يتنبه بأحلامهم ، وأن يطور هذه الأحلام فى بناء قصصى متماسك .
ومن هنا نرى محمود البدوى يتنبه للبعد الثالث فى تكوين ثقافته ، فنراه يتطلع إلى سفريات كثيرة خارج مصر ، وفى أحيان كثيرة كان يقوم بهذه السفريات على حسابه الخاص ، سافر إلى أماكن كثيرة ، واختلط بشخصيات عديدة ، وجذبته الباخرة والميناء ، وانعكس ذلك على كثير من قصصه وأعماله الأدبية .
تضافرت هذه العوامل الثلاثة المتمثلة فى البيئة الصعيدية أولاً ، وفى البيئة القاهرية ثانيا ، وفى السفريات للخارج ثالثا وأخيرا ــ تضافرت هذه العوامل الثلاثة فكونت شخصيته الثقافية المتميزة ، والتى جعلته مصدر إحترام من أبناء عصره ، ومن الباحثين الشبان الذين يؤرخون للحركات الأدبية بكل موضوعية ويعطون لكل رائد حقه ومكانته التى يستأهلها بسبب موهبته ورعايته لهذه الموهبة .
* * *
وانعكست تلك الشخصية المميزة لمحمود البدوى على فنه القصصى ، وهنا مبلغ الصدق الذى لا يتوافر عند الكثيرين ، وهو صدق ناتج عن أن الشخصية تندمج مع الإبداع ومن أن الإبداع هو جزء من الشخصية ، مما يدل على أن هذا الكاتب لا يكتب من أجل التسلية وإزجاء الفراغ وإنما يكتب لأن الكتابة عنده جزء من شخصيته ، أو بعبارة أخرى لأن الشخصية عنده إندمجت فى رسالته الأدبية . وفى فنه القصصى ، فأصبح الأمران الشخصية والإبداع لا ينفكان لأنهما تركيبة واحدة .
ويمكن أن نرصد انعكاس شخصيته على فنه الإبداعى خلال أربعة محاور ، هى كما يلى :
1 ــ تنوع الشخصية عند محمود البدوى ، فقد كتب الرجل ما يزيد عن 375 قصة ، تنوعت فيها الشخصية التى التقطها من تجاربه ومن حياته ، فهناك شخصيات من الصعيد ، وهناك شخصيات من القاهرة ، وهناك شخصيات من الإسكندرية ، وهناك شخصيات من هونج كونج ، وهناك شخصيات من اليابان ، وغير ذلك من شخصيات مختلفة ومتنوعة ، وتدل على تجارب هذا الفنان الكثير وانتقالاته من مكان إلى مكان ، وهو حين ينتقل من بيئة إلى بيئة ، ومن مكان إلى مكان ، لا تمر التجارب عليه ملساء ، ولكنه يهضمها ويمتصها ويلتقطها بعين راصده ، ثم يعيد خلقها من جديد ، حقا هو يبدأ من الواقع ، وحقا هو يلاحظ ما حوله ، ولكنه يهضم كل ذلك ويعيد خلقه من جديد ، فتتحول الشخصية عنده إلى شىء جديد وإن كان يعتمد على ملاحظاته الخارجية .
2 ــ وهذا المحور الثانى يمثل أهمية خاصة لأنه يتعلق بالشكل عند محمود البدوى ، والأدب كما نعرف جميعا هو شكل وصياغة وأسلوب ، فليس الأدب هو مجرد محاكاة للواقع ، أو هو مجرد التقاط التجربة من الواقع ، ولكنه فى المقام الأول هو خلق للواقع وصنع للتجربة . إن الشخصية عند محمود البدوى ذات مستوى فنى خاص يجعله مميزا بين أبناء جيله .
كثير من الكتاب ممن عاصروا محمود البدوى ، كانوا يلتقطون شخصياتهم من الواقع ، ويصورونها على الكتب كما هى ، مع تطعيمها ببعض الأساليب الجميلة أو بنوع الإثارة . وهم هنا يشبهون كتاب الحوادث فى الصحف اليومية ممن يسجلون الحوادث التى تقع فى الشارع أو فى البيت ويقدمونها للقارئ بصورة مثيرة وبأسلوب صحفى . وقد إنتشر هذا الاتجاه بنوع خاص مع بزوغ مدرسة الفجر فى أوائل القرن العشرين ، وقد كانوا ينشرون قصصهم فى صحيفة الفجر وهى قصص مستقاة من الواقع دون أن تحمل آفاقا إنسانية أو بعدا فلسفيا ، وقد ورد عن بعض الكتاب فى ذلك العصر أنه كان يحمل ورقة وقلما ويتجول فى حى الأزبكية أو فى الأحياء الأخرى ويسجل ما يراه فى الواقع . ويمكن أن نضرب مثالا على هذا الاتجاه من بعض قصص محمود طاهر لاشين ، والتى نشرها فى مجموعاته القصصية ، وكان يتحدث فيها عن مشكلات إجتماعية مثل مشكلة تعدد الزوجات ، أو إهمال الأبناء ، أو شرب الخمر ، أو غير ذلك من مشكلات إجتماعية . والكاتب هنا أشبه بالمصلح الاجتماعى الذى يعرض بعض المشكلات الاجتماعية ويحاول أن يقدم لها بعض الحلول على هيئة عظة أو نصح .
وفى مقابل ذلك ، نجد بعض الكتاب يميل إلى عرض المشكلات الإنسانية التجريدية ، إن جذوره لا ترتبط بالواقع ، بل هو يتعالى على الواقع وينسحب من المشكلات الاجتماعية ويشغل نفسه بالحديث عن مسائل فلسفية عامة أو غرائز إنسانية تشمل البشر جميعا ، ولا تنطبق على بيئة دون الأخرى . ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك بالأستاذ إبراهيم المصرى الذى كان يكتب فى الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية ، ويتناول قصص الحب الإنسانى ، ويحللها بطريقة فلسفية ، إن الكاتب هنا أشبه بالفيلسوف الذى يتعامل مع قضايا عامه ومع مشكلات إنسانية تشغل البشر فى كل مكان وزمان .
قلت إذن هناك تطرفين عند بعض الكتاب المعاصرين للأستاذ محمود البدوى ، وبعض الكتاب أشبه بالمصلح الاجتماعى الذى تشغله قضايا واقعية. وبعض الكتاب أشبه بالفيلسوف المتعالى الذى تشغله هموم إنسانية عامة . ولكن محمود البدوى شق له طريقا مميزا بين هؤلاء الكتاب ، وهو طريق يجمع بين الخاص والعام ، بين الواقع والرؤيا الفلسفية دون أن يطغى أحدهما على الآخر ، لقد كان يقدم طبخة ماهرة يندمج فيها العام مع الخاص ، وتخرج القصة فى النهاية مسبوكة حية لا تحس فيها بطغيان جانب على حساب الجانب الآخر ، إنه يلتقط قصصه من واقعه ومن تجاربه الخاصة ، ولكنه يتعالى بها درجة فدرجة ، وقطرة فقطرة ، ويصعد بها إلى رؤية فلسفية منتزعة من الواقع ومندمجة به ـ إن قصته "الأعمى" ، وهى من أوائل قصصه التى ظهرت فى أوائل الثلاثينيات ــ إن قصته هذه كما ذكر فى أكثر من مناسبة تدور حول شخصية التقى بها فى قريته ، وهو مؤذن المسجد ، ولكن محمود البدوى لا يقف عند هذه الشخصية الطريفة والتى هى من مخزون ذكرياته ، كما كان يفعل محمود تيمور فى مجموعاته المبكرة مثل الشيخ جمعة ومحمد متولى والمهدى، وغير ذلك من مجموعات قصصية كان فيها محمود تيمور ينجذب نحو شخصية طريفة أو مثيرة ، أو تحمل له ذكريات خاصة ، فيقدمها كما هى ـ أقول إن محمود البدوى لم يقف عند هذه الشخصية الطريفة والتى هى من مخزون ذكرياته ، بل تصاعد بها إلى رؤية إنسانية ، وتعرض فيها لقوة الغرائز التى قد توقع الإنسان الضعيف فى بعض الخطايا ، وأضاف إلى ذلك قدرًا من التحليل النفسى، هز تركيبه الأعمى وجعلته يسقط فى نهاية القصة.
3 ــ إن التحليل النفسى لا يقف عند شخصية الأعمى فحسب ، بل هى ظاهرة تميز معظم قصص محمود البدوى ، وهنا يمكن التحدث عن المحور الثالث فى قصص محمود البدوى ، وهو محور يتعلق بالشخصية المركبة عنده . فالنقاد يقسمون الشخصية إلى شخصية مسطحة وإلى شخصية مركبة وهم يعنون بالشخصية المسطحة تلك الشخصية التى لا تتناول عمقا نفسيا ولا تحليلا ولا سبرا للأغوار الداخلية . إن القاص فى مثل تلك الشخصيات المسطحة يقف عند الظاهر ، قد يرسم المعالم الخارجية للشخصية فيتحدث عن مظهرها ، عن شكلها الخارجى ، وعن طولها وقصرها ، وعن جمالها وقبحها ، ولا تساعده موهبته فى أن تكون هذه الأوصاف مدخلا إلى المعالم الغائرة فى نفسية الشخصية ، وهذا النوع من القصص يمثل الحد الأدنى من القصص التى لا تغامر كثيرا فى مجال الفن عن طريق التحليل النفسى ، أما عن الشخصية المركبة هى تتجاوز ذلك ، قد يتحدث القاص فيها عن المظهر الخارجى للشخصية ولكنه لا يقف عند ذلك ، بل يدلف إلى أغوار الشخصية ، وتكون الأوصاف الخارجية للشخصية موحية بتركيبة الشخصية الداخلية ، إن القاص هناك يقدم الأوصاف الخارجية خبط عشواء ، وليس هو مثل الذى يكتب أخبار الحوادث فى الصحف ، أو مثل رجل الشرطة أو رجل النيابة الذى يصف الشخصية بملابسها الخارجية وبمظهرها السطحى . إن القاص يقفز من كل ذلك إلى عالم الشخصية الداخلية ، ويجعل الأوصاف الخارجية موحية ببنيان الشخصية ، وهذا النوع من الشخصية يمثل قفزة كبيرة فى مجال التصاعد السلمى للتطور الفنى .
ومعظم شخصيات محمود البدوى هى من الشخصيات المركبة ، التى يلتحم فيها المظهر الخارجى بالعالم النفسى للشخصية ، هو يصف الشخصية من الخارج ولكنه يقدم هذه الأوصاف بحكمة وذكاء فتوحى بالعالم الداخلى للقصة ، وهناك إندماج تام بين المظهر الخارجى للشخصية وبين حياتها الداخلية فلا تحس بالتنافر ، ولا تحس بأن بعض الأوصاف الخارجية قد أتت من باب الصدفة ، ولا تحس أن البناء النفسى للشخصية هو مجرد حديث عن نفسية الشخصية أو عن التحليل النفسى كما نشاهده فى بعض قصص التحليل النفسى التى تدلف إلى داخل الشخصية وتشبه عالم النفس وتحلل الشخصية بطريقة مملة تجريدية . إن محمود البدوى يربط بين البناء الخارجى للشخصية وبين التحليل النفسى للشخصية ، فتأتى قصته حية أقرب إلى المجال الفنى منها إلى رجل النيابة الذى يقف عند المظهر الخارجى ، أو إلى عالم النفس الذى يكتفى بالتحليل النفسى المجرد . إن محمود البدوى فنان يجمع بين الخارج والداخل فى تركيبة نفسية حية ومؤثرة .
ولا نحتاج إلى دليل لكى نستشهد به على الشخصية المركبة عند محمود البدوى ، فكما قلت إن معظم قصصه تميل إلى تلك الشخصية المركبة التى تجمع بين المظهر الخارجى وبين التحليل النفسى . إن له قصة من باب المثال تتحدث عن مساعد لسائق القطار يحسد سائق القطار لأنه يتولى منصبا قياديا ويكتفى المساعد بهذا الدور الثانوى ، ويتغلغل محمود البدوى داخل هذه الشخصية المعقدة ويتابع خط سيرها النفسى فى ذكاء وفنية .
بل إن الكثير من شخصيات محمود البدوى ، التى التقطها فى سفرياته ، فى ميناء أو على الباخرة أو فى محطة سكة حديد ــ أقول إن الكثير من هذه الشخصيات عند محمود البدوى تتميز بالحيوية والتحليل النفسى . نحن نعرف أن بعض الكتاب ممن يتناولون أمثال هذه الشخصيات يميلون إلى التجريد وإلى الغربة وإلى البعد عن الحياة ، وقد رأينا نماذج من ذلك النوع إنتشرت فى أدب العبثية ، الذى ازدهر فى أوربا خلال الحربين العالميتين ، واتخذت عنوان مثل الغريب واللامنتمى وغير ذلك من صفات تبعد الشخصية عن الواقع الحى ، وتمتلئ بالتجريد وبالتصوير الذى يبتعد بها عن الواقع ، وقد إنتقل هذا النوع من الشخصيات اللامنتمية إلى أدباء الستينيات فى مصر ، فتميزت بعض شخصياتهم بالفراغ واللا إنتماء والتجريد والبعد عن الواقع الحى ، ولكن شخصيات محمود البدوى التى التقطها أثناء سفرياته تميزت بالتحليل النفسى ، فجاءت حية مثيرة بعيدة عن التجريد والغموض ، والأمثلة على ذلك كثيرة من شخصياته التى التقطها أثناء سفرياته ، وتفاعل فيها محمود البدوى مع هذه الشخصيات ، فأضفى عليها قدرا من تجاربه الخاصة وقدرا من البعد الإنسانى الحى ، الذى يظهر فى بعض قصص الحب مع هذه الشخصيات ، وفى بعض العلاقات الخاصة التى ميزت قصص محمود البدوى وأبعدتها عن الغربة والعبثية واقتربت بها عن طريق التحليل النفسى إلى الحيوية والتشويق .
4 ــ فى قصة "الأعمى" تنال الشخصية جزاءها لأنها خالفت القانون الخلقى ، فنجد الأعمى بعد إرتكاب الخطيئة يفقد توازنه ، وينحبس صوته ، وتهره كلاب القرية وكانت من قبل لا تؤذيه ويرميه الأطفال بالحجارة ، وهنا نصل إلى المحور الرابع فى قصة محمود البدوى والذى يتلخص فى قيمة الالتزام الخلقى ، وهى قيمة نادرة لا تصدر إلا من الكتاب الأصلاء ، الذين يعبرون عن تراثهم وعن تاريخهم ، ولا ينطلقون مع أحدث الموضات التى سادت فى الفن القصصى خلال القرن العشرين .
فقد كان كثير من الكتاب يتحدثون عن حرية الفنان ، ويفهمون فكرة الفن للفن فهما خاطئا ، يعنى عندهم أن من حق الفنان أن يتمرد على كل شىء، وأن يسير مع هواه دون أن يربطه وازع دينى أو رابط خلقى أو مواصفات اجتماعية ، إن مفهوم الفن للفن كما أراه هو إحترام القيمة الفنية واحترام الفن لذاته ، فلا تتحول القصة إلى مقالة اجتماعية أو إلى خطبة دينية أو إلى منشور سياسى ، فالفنان يحترم مواضعات الفن القصصى ومواصفاته الفنية ، ولكنه لا يخرج عن الثوابت التى إرتضتها الجماعة وارتضتها الإنسانية، لأن مثل هذه الثوابت هى نوع من القيود الفنية التى يجب أن تحترم ، فالفنان لا يكتب لنفسه ، أو يكتب عن عقدة الشخصية ، أو يكتب عن انحرافاته النفسية ، ولكنه يكتب من أجل القاسم المشترك ، الذى يتفق فيه زيد مع عمر مع خالد ، ويكون أرضية مشتركة من خلالها يستطيع الفنان أن يصل إلى القارئ ، وأن يخاطب فيه القدر الذى يتفقان عليه ــ أقول قد سادت خلال القرن العشرين موجة من الحرية الخاطئة التى جعلت الكتاب يسيرون مع هواهم ، فيخرجون على المقدسات من ناحية ويسرفون فى تصوير الغريزة الجنسية من ناحية أخرى . وقد بدأت هذه الموجة حيية فى أعمال مثل أعمال أمين يوسف غراب وإحسان عبد القدوس ، ولكنها مع الفوضى واختفاء القيمة الفنية وغياب النقد الموضوعى تمادت هذه الموجة فى أواخر القرن العشرين ، وأصبحت الفاكهة المحرمة ليست محرمة بل هى تعرض بإغراء شديد وبمواصفات شديدة ، وأصبح الحديث عن الجنس مقصود لذاته دون أن يقتضيه سياق فنى ، ودون أن يغلف فى رمز يشير ولا ينص ، يومئ ولا يصرح ، ويحاول أن يتملق غرائز القارئ ، وأصبح صورة من المجلات الرخيصة ومن الكتب الرديئة ومن الأقلام الماجنة التى تتملق غرائز المراهقين ، وتعرض على أرصفة الشوارع . وتعرضت المقدسات الدينية أيضا لهذه الموجة العاتية ، وصارت هنالك جرأة شديدة تمس الذات الإلهية ، وتمس الرموز التاريخية والدينية ، وتعرض دون حياء ، ولعل رواية وليمة لأعشاب البحر التى أثارت ضجة شديدة تصلح مثالاً لهذه الموجة الفاسدة ، فهى رواية رديئة فنيا ، وكل ما فيها أنها تجذب النفوس المنحرفة عن طريق الإفاضة والشرح والتفصيل فى الأمور الجنسية ، وهو شرح يخرج عن المواصفات الفنية ، لأنه يكسر ويوقف حركة الرواية ، ويجعل القارئ يلتمس لذته خارج العمل الروائى وخارج المواصفات الفنية ، والرواية أيضا مليئة بالهجوم على المقدسات الدينية وبوضع القرآن الكريم فى سياق لا يليق به ، وبالتطاول على الرموز الدينية والتاريخية ، بطريقة منحرفة لا تخدم السياق الفنى ولكنها ترضى بعض النفوس المريضة ، وترضى ذلك الاتجاه الذى يلاقى تشجيعا فى ظنى من دوائر خارجية تكيد لهذه الأمة ولتاريخها ، فضلا عن أن هذه الرواية تجلد الذات ، وتنعى الأمة العربية وتاريخها ، وترى أنها قد تحولت إلى وليمة لأعشاب البحر ، وأنها قد فقدت مبررات وجودها ، وأصبحت خارج التاريخ الإنسانى ، فهى لا تحمل نبرة تفاؤل ، ولا تنبه لحركات المقاومة والاستشهاد ، وللثورات العربية فى مصر والجزائر وأيضا فى الانتفاضات الفلسطينية التى يحترمها كل العالم والتى تبرهن على أن هذه الأمة تحمل مقومات وجودها وتاريخها .
ولكن محمود البدوى يختط له طريقا غير تلك الطرق المنحرفة ، فهو رجل صلب ، تربى تربية صعيدية قوية ، وهو من أسرة عريقة ذات تقاليد إجتماعية قوية ، وهو قد نشأ فى جو دينى يحترم الإرادة البشرية ، ويقوى من جانب الروح الذى يهزم النوازع اللينة . ومن هنا نراه لا يساير تلك الموجات منذ بداية كتابته منذ القصة الأولى وحتى القصة الأخيرة ، إنه رجل ملتزم خلقا ، إن الأعمى مثلا يلاقى جزاءه فى نهاية القصة ، فالبدوى لا يقف عند قوة الغريزة الجنسية ، ويحاول أن يلعب بأعصاب القارئ ، وأن يوصف المواقف الجنسية التى تظهر الشخصية ضعيفة تميل إلى السقوط ، إن الجنس عنده هنا موظف ، فهو يضعه فى إطار إنسانى عام ، وهو يهذبه عن طريق الإرادة الإنسانية التى تتحكم فى هوى الشخصية .
إن قصة الأعمى مثال يتكرر فى كثير من قصص محمود البدوى ، التى تصدر عن الالتزام الخلقى ، وتضع الغريزة الإنسانية فى إطارها الحضارى ، إن قصة أخرى تحمل عنوان "رجل" تتعرض لقصة حب بين فتى مراهق وزوجة أخيه ، وكانت الفرصة هنا مواتية لكى يتلاعب محمود البدوى بأعصاب القارئ ، ويعرض لنا تفصيلات مثيرة ، كما كان يفعل بعض كتاب عصره ممن يعرضون حالة شاذة وغريبة ، قد تحدث مرة أو مرتين ، ولكنها ليست قاعدة، إنه الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ، ويثبت أن الناس لا تزال بخير ، وأن الغالبية تقف ضد الشذوذ وضد الانحراف . إن الخطيئة فى قصة "رجل" لا تقع ، لأن تركيبة البدوى لا تتقبل مثل هذه الخطايا التى تمس الإرادة الإنسانية . وكل ما حدث فى القصة أن الرجل أو المراهق طبع قبله على الزوجة خلال زجاج النافذة . أن الزجاج هنا يمثل الحاجز أو الوازع الدينى فهو يحول دون وقوع الخطيئة ، ويؤكد تركيبة البدوى التى تقوم على الإرادة البشرية واحترام المواضعات الحضارية ، فهو لا يهدف من قصصه إلى الإثارة عن طريق الحالات الشاذة ، كما وجدنا بعضا من ذلك عند صديقه أمين يوسف غراب أو عند إحسان عبد القدوس ، إن البدوى يهدف من قصته تلك إلى مغزى خلقى ، يتلخص فى أنه يجب أن نقفل المنافذ التى يتسرب منها الشيطان ، وألا نترك الأبواب مفتوحة أمام اختلاط قد يوقع فى الخطيئة ، حتى لو كان ذلك الاختلاط بين الأخ وزوجة أخيه ، لقد كان المراهق يسكن مع أخيه الكبير ، وكانت هناك فرصة لوسوسة الشيطان ولنداء الغريزة ، ولكن المراهق فى نهاية القصة يستيقظ ضميره الإنسانى ، ويحترم عطاء الأخ الأكبر الذى فتح له قلبه وبيته ، فيكتفى بتلك القبلة العارضة التى يحول زجاج النافذة دون وقوع الخطيئة . وحينما أقول إن قصة البدوى تحتوى على مغزى خلقى ، لا أقصد بذلك أن هذا المغزى مفروض على القصة ، وأنه ملصق على سياقها بطريقة نابية ومباشرة . إذ يصبح الهدف التربوى لبنة من هذه القصة ، ولا يحدث الانفصال المشئوم بين الشكل والمضمون ، لأن القصة صادرة عن فنان موهوب ، لا تهمه المماحكات الجدلية بين الفن للفن أو الفن للمجتمع ، بقدر ما تهمه أن القصة متماسكة ، وأن المضمون يصبح لبنة فى ثنايا القصة ، وأن الهدف ينبع من داخل القصة ويتحول إلى لبنة فنية وليس إلى موعظة خلقية .
وربما يدخل فى مجال الالتزام الخلقى عند البدوى هو إحترامه للدين ، فقد سادت فى أوائل القرن العشرين موجة من الهجوم على الدين ، شجعتها الدوائر الاستعمارية الغربية ، التى تريد أن تضعف من الدين فى المجتمع المصرى والعربى ، لأنها تدرك أن هذا الدين هو السياج الحقيقى أمام توسعاتها السياسية والعسكرية ، وقد أصبحت بدعة بين الأدباء فى تلك الفترة أن يهاجموا الدين ، حتى يكسبوا لأنفسهم شهرة إعلامية واسعة ، وحتى يلفتوا نظر الإعلام والصحافة إلى كتاباتهم ، ولعل مثال طه حسين ومن تبعه واضح فى ذلك ، فقد كانت طريقتهم إلى الشهرة تقوم على الهجوم على الدين ، وإثارة علماء الدين ، حتى يلفتوا نظر الإعلام ونظر الدوائر الغربية ، التى كانوا يطلقون عليها الدوائر الحضارية المتمدينة ، ولكن محمود البدوى بتربيته الدينية وبتركيبته الصلبة لا يقع فى هذا المحظور ، فهو يحترم الدين ، ويتكرر فى قصصه مفردات عن الوضوء ، وعن الآذان ، وعن المساجد ، وعن قراءة القرآن ، وهو فى رحلاته إلى البلدان الإسلامية ــ ورحلته إلى استامبول مثال على ذلك ــ يقف عند المساجد الإسلامية ويحاول أن يستعيد ذكريات الماضى وأمجاد الإسلام ، حينما كانت هذه المساجد تمتلئ بالعظماء ممن صنعوا التاريخ الإسلامى . إن له قصة حدثت فى إحدى رحلاته "دمعة" كان يقرأ خلالها القرآن الكريم ، وسمعته إحدى السائحات فظنته يغنى ، ولكنه أخبرها بأنه يقرأ القرآن الكريم ، فاستمعت إليه ، وكانت هناك فرصة لرباط قوى بينه وبين تلك السائحة الأجنبية .
تلك هى المحاور الأربعة التى إقتنصتها فى قصة محمود البدوى ، وقد أمليتها من الذاكرة ودون رجوع إلى مصدر أو كتاب ، فقط كنت أرجع إلى ذكرياتى مع محمود البدوى ، ومن هنا جاء الحديث عن هذه المحاور مقتضبا يتصف بالحميمية والرجوع إلى الماضى . وكل ما أردته من هذه المحاور أن ألفت نظر القارئ أو الباحث إلى العالم الرحب عند البدوى ، وأن انبه إلى أن كل محور من هذه المحاور يمكن أن يتحول إلى رسالة جامعية ، تتسم بالتفصيل ومتابعة الأمثلة والشرح والوصول إلى النتائج . وما أظن أن هذه المحاور الأربعة هى المحاور الوحيدة التى تحيط بعالم محمود البدوى ، وهناك محاور كثيرة ذكرها الدارسون والباحثون . وهناك محاور جديدة تنتظر من يكتشفها من الباحثين ، ممن يستطيعون أن يلجوا عالم البدوى بكل ما فيه من رحابة وفنية والتزام وتحليل وتنوع .
* * *
لا شىء يضيع عبثا .
تلك الجملة هى قانون إلهى أزلى ، فلا شىء يضيع عبثا ، وإذا لم ينل المرء حظه فى الدنيا ، وإذا لم ينل المرء حظه فى حياته فإنه بكل تأكيد سيناله بعد موته . وقد يظن البعض أن حظ المرء بعد موته يقلل من قيمته ومن فرحته ، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما ، فكبار الأدباء وأصحاب الرسالات لا يعملون من أجل حياتهم القصيرة ، ولكنهم يعملون من أجل امتداد إبداعاتهم ورسالاتهم خلال الأجيال التالية .
وحقيقة أخرى لا تقل عن الحقيقة السابقة ، وهى إن الرائد أو الموهوب أو أصحاب الموقف ، إنما تظهر قيمته بعد موته ، فالمعاصرة حجاب كما يقال ، وأصحاب المواهب والمواقف معرضون للغيرة وللحسد ، وخاصة بين الشعوب المتخلفة التى لا تحكمها تقاليد أو أعراف ، تقاوم النوازع البشرية الفردية مثل الغيرة أو الحسد ، وبعد موت صاحب الرسالة أو صاحب الموقف فإن الغيرة تختفى ، ويفرض نفسه على الأجيال التالية ، ويجد من المنصفين الموضوعيين ممن يقدرون رسالته وينقلونها إلى الأجيال القادمة .
ولا يصدق كل هذا على أحد بقدر ما يصدق على محمود البدوى ، فقد كان الرجل موهوبا ومخلصا وصادقا ، وكان يلاقى التعتيم والجحود من أبناء جيله ، ممن يحسدون المواهب ، ويدفعهم الحسد إلى الوقوف ضد هذه المواهب، وكان البدوى متواضعا ، لا يتحدث عن مواهبه ، ولا يجيد عرض بضاعته ، لقد عاصرته سنين عديدة فى لجنة القصة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ، وكان صامتا ، لا يتدخل فى حوار ، ولا يفرض نفسه على أحد ، ولا يتحدث عن نفسه ، وإذا خاطبته فى قصة له أو فى مجموعة فإنه يتوارى خجلا كالعذراء الصغيرة .
ولكن كما قلت لا شىء يضيع عبثا ، فالموهبة تفرض نفسها ، ويهيئ لها الله من المنصفين من يتحدث عنها ، وقد تحقق للبدوى الكثير من ذلك ، فهناك رسائل جامعية كتبت عنه فى جامعة القاهرة ، وفى جامعة الإسكندرية ، وفى جامعة المنيا ، وفى جامعة الأزهر ، وفى غيرهما من الجامعات المصرية ، وهناك مقالات ودراسات ومؤلفات كتبت حول حياته وأدبه ، من كبار الأدباء والنقاد ، من أمثال الدكتور محمد مندور ، والدكتور عبد العزيز الدسوقى ، وفؤاد دوارة ، ورجاء النقاش ؛ والدكتور سيد حامد النساج ، وعلاء الدين وحيد ، ومحمد قطب ، وعلى عبد اللطيف وغيرهم .
وقد هيأ الله له بعد موته من يحمل رسالته ، ويهب نفسه لخدمة إبداعات ذلك الرائد الكبير ، وأعنى بذلك على عبد اللطيف وهو شخصية نادرة تقل فى مجتمعاتنا العربية والمصرية ، فهو ينكر نفسه ، ويؤثر غيره ، ويبذل جهده من أجل الآخرين ، لقد نذر بقية حياته لجمع أعمال البدوى ، ولمتابعتها ، ولتصنيفها ، وللسفر لملاقاة النقاد الذين كتبوا عنها ، ولمتابعة الصحف والمجلات فى دار الكتب وفى غيرها ، ولطبع قصصه فى مجموعات ينفق عليها من جيب أسرته وللكتابة عن هذه الكتب وللاتصال بأجهزة الإعلام والأصدقاء والمهتمين ، وفى دفع قصور الثقافة والجمعيات الأدبية لعقد الندوات حول أدب محمود البدوى ، ولإرسال مطبوعاته إلى النقاد وأساتذة الجامعات ، وهو يفعل كل ذلك بحب وقلب كبير .
إن هذا النموذج الذى يمثله على عبد اللطيف نموذج يستحق الاحترام ، لأنه يصدر عن إيثار وحب ، وتلك عملة نادرة فى مجتمعاتنا التى تحارب المواهب النادرة ، وتعتم عليها ، وتحول بينها وبين الانتشار .
إن نموذج على عبد اللطيف يستحق الاحترام بقدر ما يستحقه محمود البدوى نفسه ، لأن جهده لا يقل عن جهد البدوى نفسه ، لقد أدى البدوى رسالته ، وتركها مطوية بين صفحات الكتب ، وعلى أرفف المكتبات ، ثم جاء على عبد اللطيف فأزاح الغبار عن هذه المقتنيات النادرة ، وأبرزها وأوصلها إلى القارئ ، وكتب لها الذيوع والإنتشار .
فتحية صادقة لمحمود البدوى صاحب الموهبة النادرة . وتحية لا تقل صدقا لـ على عبد اللطيف راعى هذه الموهبة ، وفى النهاية دعوة لإحياء هذا التقليد، بأن يظهر الرجل المخلص أو الفريق المخلص أو الجمعية المخلصة التى ترعى المواهب ، وتقاوم النوازع البشرية التى تحارب هذه المواهب ، وتوصل الثروات الأدبية إلى الأجيال التالية ، وهى ثروات لا تقل عن الموارد الاقتصادية أو المعادن الثمينة .
لقد حمل إلينا تاريخ الأدب العربى أسماء الرواة ، الذين أخلصوا للشعراء ، وحفظوا دواوينهم ونقلوها إلى الأجيال التالية ، ولولا هؤلاء الرواة لضاعت تلك الكنوز الثمينة ، ولخسرنا الكثير من تلك الثروات التى لا تعوض ، واليوم يحيى على عبد اللطيف هذا التقليد الجميل والذى نرجو أن يكون بادرة تدفع الكثيرين إلى مواصلة هذا الطريق ، فهم يخدمون أمتهم من ناحية ، وهم يخدمون أنفسهم من ناحية أخرى ، لأنهم يكتبون لأنفسهم الخلود بقدر ما تخلد تلك المواهب النادرة ، التى قاموا برعايتها وإظهارها وتوصيلها إلى الأجيال المقبلة .

مدينة نصر
5 أغسطس 2002 م

مقدمة : بقلم على عبد اللطيف

مقدمــــــة


بقلم : على عبد اللطيف


فى أحد الأيام ، منذ سنوات عديدة ، حينما أتتنى الرغبة فى الزواج ، تقدمت لخطبة الابنة الكبرى لمحمود البدوى ، لم أكن أعلم أى شىء عن هذه الأسرة سوى أن الابنة تعمل ببنك الإسكندرية ووالدها متوفى وكان أديبا كبيرا وأنها تسكن فى عمارة آسيا بميدان تريومف ، وأخبرنى زوج شقيقتى الصغرى ــ وكان له تعاملات بفرع البنك الذى تعمل فيه ــ بأنها على مستوى عال من الأدب والخلق وسيرتها فى العمل حسنة .
وذهبت إليها فى البيت ــ بميعاد سابق ــ وكنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى خوفا مما يخبئه لى القدر بهذه الزيجة ، وتشجعت وأقدمت على هذه الخطوة وتركت أمرى إلى الله ، إن عشت معها سعيدا فحمدًا لله ، وإن كان غير ذلك ، فهذا قدرى وعلىَّ أن أكيف أمورى على هذا الوضع إلى أن يقضى الله أمرا .
وفى أحد الأيام وكنت بحجرة مكتبى بالتليفزيون وتتصارع هذه الأفكار فى رأسى ، تصادف أن مرت الزميلة نهى إبنة الأديب الكبير يحيى حقى ، فكانت فرصة لى لأقوم بعمل تحرياتى حول عروس المستقبل ، ولكى يطمئن قلبى ، سألتها :
ــ أتعرفين الأديب محمود البدوى .
ــ طبعا أعرفه .. ده صديق أبويا .
ــ خطبت إبنته الكبرى ليلى .
ــ ألف مبروك .. إختيار موفق إن شاء الله .
وانصرفت الزميلة .. وبعد فترة قصيرة جاءت مسرعة .
وقالت .. تعالى كلم بابا .. بابا على التليفون فى مكتبى .. ودخلت مكتبها ورفعت سماعة التليفون وقلت للمتحدث .
ــ صباح الخير يا أستاذ يحيى .
ــ مبروك .. مبروك .. مبروك .. مبروك .. ألف مبروك .. حتناسب أسرة عظيمة .. محمود البدوى صديق عمرى .. دول ناس من الصعيد .. بيت كله كرم وشهامة وأخلاق .
واستمرت المكالمة بضع دقائق ، وسعدت بها ، ورقص قلبى من الفرح ، وشعرت بأنه لا يوجد أحد على الأرض ينافسنى سعادتى وهنائى ، فقد أزالت المكالمة كل ما إعترانى من هم وخوف مما يخبئه لى القدر ، واكتفيت بهذا ، ولم أتحر عن العروس بعد الكلمة الطيبة الحلوة الجميلة التى شرحت قلبى وأفرحته.
قلت فى نفسى ، لعله من المستحسن قراءة بعض أدب محمود البدوى لأجد مجالاً خصبا للحديث مع العروس وأختها وأمها وأبين لهم أنى قارئ وأفهم فى الأدب وفى مستواهم الفكرى .
وذهبت أبحث فى المكتبات عن مؤلفات لمحمود البدوى فوجدت فى الأسواق كتابين عن الأعمال الكاملة صدرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986 ، ويشمل كل واحد منهما على ثلاث مجموعات قصصية ، وحملت الكتابين إلى البيت ، وجلست أتصفح ما كتب فيهما .
وقعت عيناى على أول قصة وكانت بعنوان "الذئاب الجائعة" والتهمت سطورها الأولى ، وتوقفت عن القراءة واشتدت دقات قلبى .. كان يقول "خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل ، نزحف نحو المزرعة ، كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب " وغاص قلبى بين ضلوعى ، فالبين أنه يحكى ذكرياته مع رجال الليل ، ولكنى تحاملت وتابعت وأكملت القراءة ، فوجدته يقول " وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدًا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها ، وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى" تعجبت فإن التخطيط للسرقة بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب لا يتأتى إلا من عتاة المجرمين " شيخ منسر " وفكرت فى لحظتها أن أخلع من هذه الزيجة وأنفد بجلدى وأهرب بأى طريقة، ولكن .. كيف الوصول إلى هذا السبيل ، وقد تورطت وأعطيت كلمة ، وقلبت الكتاب ، فكانت القصة التالية بعنوان "ساعات الهول" يقول فيها "فتحت عينى فى ثقل شديد ، وحركت ساقى ، حركت فخذى الأيمن ، وتحسست بيدى موضع الجرح ، يا لله !.. لم يكن هناك جرح ولا قدم ولا ساق ، لقد ذهب ذلك كله فى غير رجعة " توقفت وتأملت ، ففى هذه القصة قطعت ساقه ، وإندهشت ، وعادت ذاكرتى إلى منزل العروس ، ففى مسكنها رأيت صورة لوالدها وهو يسير فى أحد شوارع القاهرة بلا عصا وبدون عكاز ، وكتب عليها يوم من أيام البدوى عام 1982 وتوحى الصورة للناظر إليها أنه غير مصاب بأى عاهة وهو فى هذه السن الكبيرة .











قلت فى نفسى فيه شىء غير مفهوم فى حياة هذا الرجل ،
كانت القصة الأخرى بعنوان "النفوس المعذبة" وفيها يحكى أنه كان يعيش فى الريف وله أخ متزوج ويقيم فى القاهرة ومتزوج من قاهرية وحينما يذهب لزيارته ، كانت الزوجة تستقبله باشمئزاز وقرف رغم ما يحمله لهم من الخيرات ، وكانت دائمة التوبيخ والضرب الموجع لخادمتها لا لشىء ، إلا لأن خادمتها جميلة ، فأراد أن يكسر أنف زوجة أخيه وتموت من الكمد ، فتزوج الخادمة ، وعقد القران فى بيت أخيه فى هذه اللحظة أحسست بأنه توجد فى حياة الرجل إمرأة أخرى غير زوجته التى قابلتها وقد تكون أم العروس .












وعلى قصة أخرى وقعت عليها عيناى وهى بعنوان "فى القرية" ويحكى عن حياته مع عمال التراحيل وأن أجره اليومى ثلاثة قروش فى اليوم نظير عمل 12 ساعة ، وكان عمله بين الشادوف وسقيا الأرض وعزقها من فجر اليوم إلى مغرب الشمس " ، وتعجبت ، كيف لهذا الرجل الذى قيل لى أنه ينتسب إلى عائلة كبيرة فى الصعيد وأبوه وأجداده كانوا عمد القرية منذ أكثر من 180 سنة ، يعمل مع عمال التراحيل ويترك أهله .. واكتفيت بما قرأته ، وقد تكشف ماضيه أمام عينى وفضح نفسه وأسرته بكتابة ذكرياته .
قررت أن أستوضح سر حياته من العروس فى أول مقابلة لى معها ، وسألتها دون لف أو دوران .
ــ أبوكى كان ييشتغل إيه .
ــ أديب .. كاتب قصة .
ــ لأ .. كان بيشتغل إيه .
ــ فى وزارة المالية .. لحد ما طلع على المعاش .
ــ قصصه كلها توحى إلىّ أنه يحكى ذكرياته وقصة حياته .
ضحكت وقالت .. وقعت فيما يقع فيه غيرك ، إقرأ فى الأدب وأنت تعرف .. فى قصة الطبيب لو قرأتها حتقول إن أبوكى كان طبيب ، وفى قصة سائق القطار ، حتقول أنه كان سائق قطار ، والدى كان يكتب عن شخصيات إستمدها من الواقع ، وهذه الشخصيات يكتب عنها بعد أن يعايشها طويلا ويفكر بطريقتها ، وينظر إلى واقع الحياة بنفس منظورها ، فكان يغوص فى أعماقها ليسهل التعبير عنها ، وأغلب قصصه يسردها بضمير المتكلم ، إطمئن .. أنا من أسرة عميقة الجذور فى الصعيد .
هنا فقط شعرت بأنى فضحت نفسى وتكشفت أمامها ، وأنى لست بقارئ للأدب ولا أفهم فيه ، وليست لى صلة بهذا الفرع من فروع الثقافة .
التهمت الكتابين حتى تيقنت أنه لا يحكى ذكرياته ، وتعجبت ، من هذا الرجل ، وتساءلت كيف وأنا الحاصل على الشهادة الجامعية وهو ما يطلق عليه المتعلم ، كيف استطاع أن يقنعنى بأنه يسرد ذكرياته وأن أحداثها وقعت له أثناء حياته .
وتم الزواج ، ومكنتنى زوجتى من مكتبة والدها فاطلعت على جميع مؤلفاته وأعدت قراءتها ، وفى كل إعادة أجد فيها شيئا جديدًا غفلت عنه فى قراءتى السابقة ، وتمكن هذا الرجل من قلبى وأحببته ، فقد أخذنى إلى عالم لم يسبق لى معرفته ، صحبنى معه فى جولة عبر الزمن الماضى ، يعطينى المعلومة فى قالب قصصى شيق مثير ، اصطحبنى معه إلى عالم البنسيونات وأصحابها الأجانب والغرف المفروشة التى كانت توجد بكثرة لدى الأسر الأفرنجية وتقوم بتأجيرها للاستعانة بإيجارها على ظروف الحياة ، عرفت الحياة الأخرى والعالم الآخر الذى مهما عشت ــ لأن تجاربى محدودة ــ لم أكن لأعرفها ، وهو عالم المرأة ، عرفت حال مصر فى أيام الاحتلال البريطانى ودور الشعب المصرى لمقاومته ، وما قام به أهل الصعيد فى مدينة أسيوط والقرى المجاورة لها فى أحداث ثورة 1919 ، عرفت أحاسيس الإنجليز فى مصر أثناء هجوم الألمان ودك مدينة الإسكندرية بمدافعهم من البحر وإسقاط القنابل من طائراتهم وهى فى السماء ، والغارات التى أصابت البلد الآمن ، وماذا كان يفعل الإنجليز فى الشعب المصرى ودور هذا الشعب فى المعركة وكيف أنه كان يستغل لصالح دول الحلفاء ، وعرفت حريق القاهرة وحال الفلاح المصرى فى مصر ومثيله فى البلاد الأجنبية ، والأزمة الاقتصادية التى عمت العالم عام 1934 عندما سافر البدوى إلى أوربا الشرقية على متن باخرة رومانية بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا .
* * *
وقع فى يدى مجموعة قصصية ضمها دفتى كتاب بعنوان "أحلام صغيرة"
(1) للشاعر والأديب عبد الرحمن الشرقاوى ، وفى المقدمة إهداء للبدوى ــ وعجبت ، وفى نفس الوقت شعرت بالفرحة الغامرة تهز كيانى ، وفاء من أديب كبير رحمه الله ــ يقول فى المقدمة ؛
"... وظلت الحياة موضوع الفن بشكل ما ، عبر حكايات الجاحظ ، وانتفاضات يعقوب صنوع والنديم ومغامرة المويلحى ومحمد تيمور ومحمد السباعى .
حتى أشرقت تجربة محمود البدوى ، تضىء أمام العين والفكر والقلب كثيرا من آفاق حياتنا المصرية المعاصرة ، وشعت من كلماته الصادقة تلك الحرارة الحلوة التى تعطى الدفء والنبض لكثير من الأشياء الصغيرة التافهة!..
فإلى محمود البدوى ، الكاتب الجسور ، الذى علمنى منذ نشر مجموعته "رجل" فى سنة 1935 كيف أحب حياة الناس البسطاء ، وكيف اهتز لما فيها من روعة وعمق وشعر ..
إلى محمود البدوى .. وإلى كل هؤلاء الذين يعملون بأمانة على إثراء تجربة التعبير فى مصر ويضيفون بكتاباتهم المخلصة كنوزًا جديدة إلى تراثنا الفنى .. إلى هؤلاء الذين لم تزغ قلوبهم من الزيف ، ولم يخطف أبصارهم بريق العملة الأجنبية ....
إليهم جميعا .. وهم الأمل العزيز لمصر .. أقدم تحية صديق .. وثقة مواطن..
وحين سئل الأديب والشاعر عبد الرحمن الشرقاوى ، أثناء إستضافته بالبرنامج التليفزيونى أتوجراف عام 1977 عمن تأثر به فى كتابة القصة المصرية القصيرة من أدباء مصر قال : رائدى فى كتابة القصة القصيرة وتأثيره علىَّ فى مطلع حياتى الأدبية هو الأستاذ الكبير محمود البدوى الذى يعتبر بحق أول رائد للقصة القصيرة فى مصر " ... ودار الحوار طويلا حول شخصية البدوى وأخلاقياته وسلوك تعامله مع مجتمعه ومع المسئولين عن الفن والثقافة فى مصر ، وقال الشرقاوى إن من أولى خصائص القصاص الرائد محمود البدوى هى كبرياؤه الشديدة وعزوفه عن الوقوف بأبواب هؤلاء المسئولين ليطلب منهم شيئا
(1) .
* * *
إسترعى نظرى وشد انتباهى ووقفت عنده طويلا ما ورد بجريدة المساء الصادرة فى 30 مايو 1963 مقالة بقلم عاشور عليش يقول فيها ، سألت محمود البدوى لماذا لم تكتب قصة حياتك ؟ فأجابنى بقوله ؛ إن قصة حياتى مكتوبة كلها فى قصصى ، فما من قصة إلا ولها أصل فى حياتى ، أو تعبير عن تجربة فى حياتى " .
وفى مجلة القصة(2) دار حوار بين الأديب والناقد محمد قطب وبين محمود البدوى ويسأله "أنستطيع أن نستقرئ حياتك فى أدبك " فيجيب :من يقرأ قصصى قراءة متأنية سيفهم حياتى دون توجيه سؤال" .
وفى حديث أجراه الأديب يوسف القعيد
(1) يقول البدوى ".. لا أتصور كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى ، وحتى إن حاول أحد ذلك ، لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء " .
وتوقفت عند الكلمات التى كتبها الأستاذ الناقد فؤاد دوارة(2) "خطر ببالى وأنا أقرأ هذه المجموعة من القصص القصيرة(3) أن أعرف شيئا عن كاتبها "محمود البدوى" ولكنى لم أستطع أن أذكر أنى قرأت عنه شيئا فيما ينشر كثيرا فى الصحف والمجلات عن أدبائنا وعن القصاصين منهم بصفة خاصة ، وكل ما تذكرته هو تلك الكلمات الضاحكة التى قدمه بها "نعمان عاشور" فيما يشبه الصورة الكاريكاتورية فى مجلة "أخبار الثقافة" وكان أبرز ما علق بذهنى منها أنه أديب محب للعزلة بعيد كل البعد عن المجتمع الأدبى والثقافى ، وقد أيد هذا الرأى ما قرأته بعد ذلك عن رفضه حضور الندوة التى قدمها البرنامج الثانى ونوقشت فيها إحدى قصصه فى برنامج "مع النقاد" مكتفيا ببرقية شكر أرسلها إلى السيدة "سميرة الكيلانى" مقدمة البرنامج وللنقاد الذين ناقشوا قصته ، أما غير ذلك من الحقائق المتعلقة بالكاتب القاص، فلا يستطيع أحد الاهتداء إليها بسهولة ، ولا شك أن العزلة التى إختارها "محمود البدوى" لنفسه لها ما يبررها ، بل هى ضرورية بالنسبة لكل أديب يريد أن يهيئ لنفسه ظروف الخلق والإبداع ، ولكن الإسراف فى هذه العزلة والمبالغة فيها على هذا النحو يجنى على صاحبها بعض الشىء ويبعده عن قرائه ، ويصعب على النقاد مهمتهم فى فهم إنتاجه وتفسيره التفسير الصحيح ، وربط بعض عناصره بحياته ، وتجاربه ، وثقافته ، هذا الربط الذى يعتبر جانبا أساسيا من جوانب النقد المنهجى المتكامل" .
وقد حاول الأستاذ الناقد علاء الدين وحيد ــ وهو من الأصدقاء المقربين لمحمود البدوى ــ إقناعه بكتابة سيرته الذاتية ، ولكنه لم يبح منها إلا عن القليل ونشرت فى الصحف والمجلات المصرية والعربية .
وفى كتابة
(1) المعنون باسم "محمود البدوى" قال الناقد علاء الدين وحيد ــ نقلا عن كتاب "فى الأدب المصرى للأستاذ أمين الخولى" وكم نحن فى مسيس الحاجة إلى دراسات جاده عن حياة أدبائنا أنفسهم لنفهم أصل هذه الصورة المنعكسة فى مرايا قصصهم وكتاباتهم .. وهؤلاء الأدباء الذين صنعوه ، لم نفهم حياتهم ، فنفهم بذلك آثارهم ، وتستبين أغراضهم ، وتتضح مآرب هذه الاتجاهات والنزعات إلى نفوسهم " .
* * *
أخذت على عاتقى بمساعدة زوجتى ليلى مسئولية البحث والتنقيب عن حياة محمود البدوى منذ ولادته والبيئة التى تربى وعاش فيها والجو المحيط حوله ، فسافرنا إلى القرية وتقابلنا مع الأهل من الشيوخ والأقارب الذين كانوا على صلة به للوقوف على بعض ما غمض فى حياته ، وبعد عودتنا من هذه الرحلة ، عكفنا على دراسة ما فى مكتبته الخاصة من الكتب وما قاله وما قيل عنه بالصحف والمجلات ، وتصفحنا ما كتبه بخط يده بالقلم الرصاص على الأوراق . (قبل إهداء المكتبة إلى دار الكتب والوثائق القومية) .
وبعد إطلاعى على الأوراق والمستندات وجدت لزاما علىَّ أن أحكى قصة حياته ليعرف القراء والباحثين والأدباء هذا الأديب الذى بفضل كلماته المكتوبة ، تعلمت كيف أعبر عما فى نفسى .
على عبد اللطيف
(1) سلسلة كتب للجميع 1956 .
(1) ص. الجمهورية 10/6/1977 .
(2) م. القصة ــ العدد 26 أكتوبر 1980 .
(1) م. امصور 25/9/1981 .
(2) القصة القصيرة 1966 ــ سلسلة الألف كتاب .
(3) مجموعة الذئاب الجائعة 1944 ــ 1945 ــ 1961 .
(1) علاء الدين وحيد ــ دار سنابل للنشر والتوزيع 2000 .

الفصل الأول ـ النشأة الأولى



الفصل الأول : النشأة الأولى
أولاً : القرية
جد (أب أب) محمود البدوى
ثانيا : والد محمود البدوى عمدة القرية
زواجـــه
حياة ومعيشة العروس فى القرية
والد العروس
أسلوب العمدة فى إدارة شئون القرية
ثالثا : أبناء العمدة
رابعا : وفاة والدة محمود البدوى

حالة محمود البدوى بعد وفاة والدته

أولاً : القرية
يقول البدوى(1) : "نشأت فى قرية صغيرة بقلب الصعيد تقع على النيل مباشرة وقريبة من الخزان .. فى جو تتجلى فيه الطبيعة بأجمل مظاهرها .. الماء والخضرة ويسوده الهدوء .. فعشت عيشة هادئة لم يعكر صفوها أى شىء" .
قرية الأكراد إحدى قرى مركز أبنوب بمديرية أسيوط(2) وهى قرية تقع على النيل مباشرة وقريبة من خزان أسيوط ، عاش أهلها عيشة هادئة بفضل عمدتها الرجل القوى الجسور الشيخ حسن عمر الذى إتبع أسلوب والده وجده وسار على نهجهما فى المحافظة على إستتباب الأمن والنظام فى القرية ، فكانت بمنأى عن الإجرام والمجرمين وقطاع الطرق ورجال الليل ، رغم ما كان يعرف عن هذه المنطقة من الصعيد "أبنوب" بأنها مرتع للجرائم والأخذ بالثأر .
"فهى تعد أشهر منطقة فى العالم إحتشادًا بالقتل ، كما جاء فى إحصاء أحد الأعوام لأكثر بلدان الدنيا التى تنتشر فيها جريمة القتل ، إلى درجة بزت فيه المثال العالمى لهذه الجريمة وهى مدينة شيكاغو الأمريكية(3) " "والتى سجلت الإحصائيات أنها ثانى بلاد العالم فى نسبة الجرائم بعد شيكاغو(4) "

جد (أب أب) محمود البدوى

تزوج عمدة القرية بزيجتين ورزق منهما بثمانى ذكور وست إناث ، وسأكتفى بذكر الذكور دون الإناث ، والذكور هم على الترتيب محمد وأحمد ورياض وحسين وحفظى وعمر وزينهم ومحمود .
وكان العمدة وأولاده يقيمون فى دار كبيرة وواسعة ، ويقوم على شئونهم وقضاء حوائجهم أربعة من العبيد وبعض الخدم ، وبجوار هذه الدار وملاصقة له مقر العمدية وبيوت بعض أفراد الأسرة وأمامه مساحة من الأرض الفضاء واسعة ، ويحتوى مقر العمدية على حجرة السلحليك ومضيفة العمدية وبيت كبير للضيافة يتم الصعود إليه بعدد من السلالم وأحيط المقر بسور مبنى من الطوب (لا يزال المقر موجودا وتعتنى به الأسرة وبملحقاته حتى الآن) .
ويمتلك العمدة أرضا زراعية تقع فى القرية وفى القرى المجاورة لها ويباشر زراعتها بنفسه .
بعد موسم جمع المحصول وتخزينه فى الأجران ، يأتى تجار الغلال من ساحل روض الفرج بالقاهرة بالمراكب لشراء المحصول بالعملات السائدة فى ذلك الزمان "المعدنية" وكان العمدة لا يمس هذه الأموال بيده ، بل يقوم التاجر بعدها ووضعها أمامه على الطاولة وبعد الانتهاء من بيع المحصول فى تلك الساعة من النهار ، يأتى الخدم بالأوعية (الطشوت) والماء والصابون ويجلسون أمامه يغسلون العملات ويكون هو "أى العمدة" فى أثناء ذلك فاتحا كتاب الله يتلو منه بعض الآيات .
وتوفى العمدة سنة 1905 واستمر أولاده من بعده يتولون العمدية ، فقد تولاها على الترتيب .
محمد فى سنة 1905 .
أحمد من نهاية سنة 1905 إلى أن توفاه الله عام 1941 تخللتها فترة تولى فيها شقيقه رياض العمدية .
زينهم من سنة 1941 إلى تاريخ وفاته عام 1991 "ولم يتم شغل المنصب بالقرية حتى الآن " .
أما حفظى وعمر فقد التحقا بالبوليس وتدرجا فى الترقى إلى أن وصل كل منهما إلى رتبة اللواء .
وحسين ومحمود أتما تعليمهما العالى بمدرسة الحقوق العليا والتحق الأول بالسجل التجارى والثانى بالنيابة العامة ثم القضاء .
* * *

ثانيًا : والد محمود البدوى عمدة القرية

تولى أحمد العمدية عام 1905 ، وكان فى الثامنة عشرة من العمر ، ويقتضى الأمر تزويجه ، وكانت والدته على صلة كبيرة بالأسر الطيبة فى جميع أنحاء قرى ومديرية أسيوط ، فاختارت له بنت عبد المنعم التونى عمدة إتليدم، وكانت هذه القرية آخر حدود مديرية أسيوط (حاليا تتبع القرية محافظة المنيا) وبدون أن يرى العروس ، أتمت الأم إجراءات الزواج ، وقام العمدة بتشييد مسكن الزوجية أعلى بيت الضيافة الملحق بمقر العمدية ويتم الصعود إليه من خارج السور المحاط بالمقر "لا زال موجودًا حتى الآن" .
زواجــــه :
وفى اليوم المحدد لوصول العروس مع والدها إلى قرية الأكراد ، كان العمدة "العريس" يجلس وبصحبته المهنئين وأخوات والدته (أخواله) وامتلأت المضيفة بالمهنئين وقبل الغروب سمع الفلاحون نقرًا شديدًا بالدف آتيا من بعيد، والنساء تزغرد والمزامير تزمر ، فقد كانت العروس آتية فى موكب مهيب ، وتركب عربة مزدانة تجرها الجياد ، والرجال حوله حاملين المشاعل ، وترقص الخيل على وقع الدف والرجال يلعبون لعبة التحطيب ، والرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق ، وأتى الفلاحون من البلاد المجاورة والفرحة تغمر الرجال والنساء والأطفال كأنه يوم عيد ، وعم الفرح كل بيت فى القرية فقد كان العمدة محبوبا من الجميع .
وصل الموكب وتوقف أمام الدار ، واستقبلت العروس ووالدها ومرافقيها بالمودة والترحاب ، وازداد سرور الأهل والأقارب ، فقد كانت فى هيئة تدل على الأصل الطيب وأنها نبتت وتربت فى بيت كريم .
كادت أم العريس تجن من الغيظ حينما شاهدت الموكب على تلك الصورة ، كانت تتوقع أن يتم الزواج من غير احتفال ، لأن الأب لم يمض على وفاته غير أشهر قليلة ، وخشى أخوات الأم وهم من قرية الطوابية ــ قرية قريبة من الأكراد ــ أن تثور حينما تسمع وترى الطبل والمزمار والرقص على الجياد ، والأسرة لازالت فى فترة الحداد ، فقاموا بإدخالها إحدى حجرات الدار ، وأغلقوا عليها الباب إلى أن ينتهى الفرح ، ومرت الحفلة بسلام .
ويقول محمود البدوى فى حوار له نشر بمجلة أسرتى الصادرة فى 31 يناير سنة 1981(1) " ولدت أمى لأب صعيدى غنى ومن أسرة معروفة ، وكان من الأعيان المتنورين ، وهو عبد المنعم التونى .. وكان يملك مساحة كبيرة من الأرض تبلغ 800 فدان ، فجعلته يبنى لنفسه قصرا فى أوائل هذا القرن فى قريته إتليدم مركز ملوى مديرية أسيوط ــ وتتبع اليوم محافظة المنيا ــ إستورد لها الرخام والزجاج الملون من إيطاليا " .
* * *

حياة ومعيشة العروس فى القرية

فى بداية حياة العروس الزوجية ومعيشتها فى القرية ، سمعت صراخ وعويل طفل لم يبلغ الثامنة من عمره ، فنظرت طفلا متسخا وممزق الثياب يقف فى الساحة أمام الدار يبكى ، وتفطر قلبها حزنا عليه ، فأرسلت الخادمة وجاءت به إليها ، ووقف الطفل بين يديها وعلمت منه أنه أتى من قرية مجاورة مع أبيه وأمه إلى جدته بالقرية ، وانصرف أباه من مدة طويلة ولم يعد ، وتصادف اليوم أثناء مروره على الجسر أن شاهد أولادًا يلعبون ، فوقف يشاهد ، فنهروه ، فلم ينصرف ، فضربوه .
أرسلت العروس الطفل مع الخادمة فنظفته وأطعمته ، وبعد أن زال غمه وكربه صرفته على أن يعود إليها فى اليوم التالى .
أعطت العروس الخادمة نقودًا وطلبت منها أن ترسل أحد الخدم إلى السوق لإحضار قماش لتحيك للطفل ملبسًا ، ولكن الخادمة أخبرتها أن بالقرية الكثير من أمثاله ، فأزادت (كان الأطفال بالقرية يلعبون فى الطين وثيابهم ووجوههم ملطخة بالوحل) .
جاء الخادم بالقماش ، فحاكت العروس الجلاليب للصبية والبنات "ماكينة الخياطة كانت من بين جهاز العروس" وأرسلت الخادمة لتوزيعها ، وعندما علمت أمهات الأطفال بصنيعها ، إزدادت سعادتهن بها والتفوا حولها معبرين لها عن حبهن وإمتنانهن وتقديرهن لها .
وأصبحت سيرتها الحلوة على لسان أهل القرية .
كانت العروس تمتاز بالذكاء المفرط ، فلم تنس واجبها نحو بيتها ، فبالرغم من وجود الخدم بالبيت ، إلا أنها كانت تشعر بسعادة غامرة وهى تطهو بنفسها الطعام ، فلم تعامل الخدم على أنهن من طينة غير طينتها ، فأحبوها وأخلصوا لها ، فقد كانت فى الطهى وصناعة الحلوى لا ضريب لها ، واستطاعت بعقليتها المتفتحة أن تجمع حولها أخوات زوجها ونساء العائلة ، وعلمتهن ما تجيده من فنون الطهى وحياكة الملابس ، وأصبحن يترددن عليها فى الوقت الذى يبصرن فيه بزوجها فى مقر العمدية أو يطوف بالقرية .
* * *
والد العروس

كان والد العروس يرسل إليها فى موسم جمع ثمار الفاكهة مركبا شراعيا كبيرا محملا بثمار الفاكهة من نتاج بساتينه وأشياء أخرى ، ويجىء إلى القرية صباح يوم وصول المركب ، ويجلس مع العمدة أمام الدوار ، وحينما يشاهد المركب ترسو بالمرساة ــ مكان قريب من الدار ــ يرسل الخدم والخفراء والعبيد إليها ويحملون حمولة المركب حتى باب الدار (لا يستطيع أحد من الرجال الولوج من باب الدار إلى داخله ) ثم تقوم النساء بحمل الأشياء إلى صحن الدار ، وبعد الإنتهاء من تفريغ حمولة المركب ، ينصرف والد العروس، وتترك العروس لأم زوجها (حماتها) توزيع هذه الأشياء على الفقراء من أهل القرية والقرى المجاورة لها ، وإذا تصادف وصول المركب فى زمن الفيضان ، فكانت ترسو بالقرب من الدار ويتم تفريغ الحمولة فى الزوارق الصغيرة ، والوصول بها حتى باب الدار (كان فيضان النيل يبلغ ذروته فى شهر سبتمبر من كل عام ويغرق الأراضى والمياه تحيط بمنازل القرية ، ولذلك كانت الزراعة الغالبة فى تلك المنطقة من الصعيد هى القمح بعد إنحسار مياه الفيضان ، وأحسن أنواعه تزرع فى جزيرة الأكراد وكان ذلك قبل بناء السد العالى ) .
أصبح أهل القرية حينما يشاهدون والد العروس جالسا مع العمدة ، يعرفون أن المركب المحملة بخيرات بساتينه آتية ، ويسرون لهذا ، ويشيع الخبر فى القرية ، وأطلق أهل القرية على العمدة وآل بيته اسم البدوى واشتهرت الأسرة بهذا الاسم .
ويقول محمود البدوى(1) : "والحب الذى كانت تغدقه أمى على أولادها وابنتها .. كانت تغدق مثله على الآخرين .. ويكفى أن أباها الثرى حينما كان يرسل إليها هداياه فى المناسبات وغير المناسبات ، وكانت فى حجم حمولة مركب شراعى كبير يسير فى النيل فى ترعة الإبراهيمية بين القريتين اللتين تقعان على النهر .. أى إتليدم والأكراد .. كانت أمى توزع أغلب الهدايا على نسوة القرية " .
* * *
أسلوب العمدة فى إدارة شئون القرية

إتخذ والد محمود العمدية كرسالة لاستمرار تحقيق الأمن والأمان فى القرية، كان تقيًّا عادلاً "رغم صغر سنه" يسوى الأمور بين الناس وله طريقته فى معالجة المنازعات والخصومات بين الفلاحين ، وله قدرة فائقة فى حسمها ، فقد تدور معركة حامية تسيل فيها الدماء ، إذا أكلت نعجة من غيط فلاح آخر ، ويتقاتلون ويتنازعون عن شبر من الأرض ويقضون النهار فى منازعات على القيراط والسهم وعلى حزمة من القش ، وقد تحدث معارك دامية على لا شىء .
إستطاع بما من الله عليه من عقلية متفتحة أن يقف بحزم وصرامة ضد من يخرج عن القيم والمبادئ والأخلاق ، فكان يرسل إلى أمثال هؤلاء أحد الخفراء، ومجرد علم المذكور باستدعاء العمده له ، يصاب بالخوف والذعر ، ويجىء إليه باكيا متوسلاً واعدا بأنه لن يعود إلى فعل ما إرتكبه وأغضبه ، ولم يلجأ إلى تسليم أحد من أهل القرية إلى مركز البوليس .
كان الأمن مستتب فى القرية ، والصراعات تقع فى القرى المجاورة التى تكثر فيها جرائم القتل والنهب .
كان مأمور المركز ومدير المديرية يتعجبان من حال أحوال الفلاحين فى القرية ، ويستريحون فى الحديث مع العمدة ويسألونه عن أسلوبه فى التعامل مع أهل القرية ، ويتعجبان لعدم وجود شكوى تقدم ضد أحد أو حتى شكوى تقدم من إمرأة ضد ضرتها فى المركز .
كانت إجتماعات العمد تنعقد فى المديرية مع مديرها ، وحين يدخل العمدة (والد محمود البدوى) يقوم الجميع وقوفا لتحيته بما فيهم المأمور ومدير المديرية ، فقال أحد الجالسين ، وكان يملك (حسبما قيل لى) 1700 فدان فى قرية أبو تيج ، هوه العمده ده عنده كام فدان ، فكان الرد من الجالس بجانبه ، متسألش عنده كام فدان ده عنده هيبه من عند ربنا .
* * *
حدثت أول حادثة فى القرية عام 1911 ، أثناء مغادرة الصراف داوود للقرية وبصحبته أحد الخفراء ، وأطلقت عليه رصاصة أثناء سيره صرعته فى الحال ، وعرف القاتل ، وقبض عليه ، وقدم للمحاكمة ، إلا أن العمدة لم يستمر فى العمدية وتولاها شقيقه رياض "وعلى الرغم من تركه العمدية ، فقد سماه أهل القرية العمدة الكبير ، وشقيقه رياض العمدة الصغير ، وكان هذا الأخير حينما يراه هالاً عليه ، يقوم وقوفا إحترامًا له" وعاد العمدة الكبير إلى العمدية مرة أخرى بعد تركها بقليل لعدم رغبة العمدة الصغير الاستمرار فيها ، واستمر فى العمدية إلى أن توفاه الله عام 1941 .
* * *

ثالثا : أبناء العمدة

أثمر زواج العمدة من السيدة تفيده عن الأبناء محمد ومحمود وفاطمة وأبو الفتوح .
* * *
ولد محمد سنة 1907 وتلقى دراسته الإبتدائية فى معهد أسيوط الدينى الأزهرى حتى حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية والفقه على المذاهب الأربعة ، ثم ذهب ليكمل تعليمه العالى بالقاهرة ، وفى أثناء ذلك طلبه والده لمراعاة الأرض والزراعة لأنه أكبر أخواته فاكتفى بهذا القدر من التعليم ، ولكنه ترك ذلك كله والتقى بشيخه الأكبر فضيلة الشيخ يوسف على الشاذلى ــ صاحب المقام المعروف بغيط العنب بالإسكندرية والمتوفى سنة 1934 وكذلك بالشيخ حسن حسين شحاته أحد أقطاب الطريقة الشاذلية بالصعيد ثم إتجه إلى دراسة الصوفية ، وتنبأ له شيخه الشيخ يوسف على الشاذلى بأنه سيكون قطب الصعيد .
تزوج محمد من إبنة عمه رياض (عمدة الأكراد السابق) عام 1943 ، وبعد مضى أربعة عشر عاما من الزواج ، رزقه الله بولدين وبنت واحدة ، وجاب الأمصار يدعو إلى الإسلام .
له مؤلفين أحدهما فى فضل الصلاة على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والثانى فى شرح الوظيفة الشاذلية وهى من الأوراد التى يقرؤها من ينتمون إلى هذه الطريقة صباحًا ومساء .
وفى 21 من شهر مايو سنة 1975 توفى فى بيته بمدينة أسيوط واجتمع أحباؤه ومريدوه من جميع أنحاء مصر ، وخرج المشهد من منزله وبعد الصلاة على جثمانه فى المسجد ، ساروا به متجهين إلى الجبل الغربى لدفنه بمقابر الأسرة ، ولكنهم لم يستطيعوا السير به ، فشارك فى حمله ثلاثة آخرون من الرجال الأشداء ، ولكن الجثمان إتجه بحامليه إلى قرية الأكراد وتوقف فى الساحة الكبيرة أمام دار العمدية ، فأرشدهم أهل العلم والمعرفة ممن كانوا حاضرين الجنازة ، بحفر قبر فى مكانه ودفنه فيه ، وحفر الحفارون وجاءت مواد البناء سريعا ، وبنى البناؤن القبر فى ذات اليوم ودفن الشيخ فيه ثم أقاموا عليه مسجدًا "المسجد والقبر على الجانب الأيمن من الساحة الكبرى وملاصق لمقر العمدية وما زال موجودًا حتى الآن " .
* * *
ولد محمود فى 4 من شهر ديسمبر سنة 1908 ، وشب طفلا مدللا وشقيا إلى حد بعيد ، وفى سنين عمره الأولى كان يحب ويهوى معاكسة النساء المتواجدين بالبيت مع أمه وخاصة معاكسة عماته أثناء جلوسهن فى صحن الدار ، كان يقوم ــ فى غفلة منهن ــ بربط الحصى أو لصق الورق فى طرحة إحداهن ــ وحينما يتنبهن لفعلته ، يضحك ويجرى ، أو يقوم بإشعال النار فى الورق ، ولا أحد كان يجرؤ أو يستطيع ردعه ، وما كان لأحد من أفراد الأسرة أو غير أفرادها يجرؤ بلمسه ، وكان يلعب فى الأجران مع لداته، فيصعدون الأجران العالية وينحدرون منها ، ويجرى بحماره الأبيض الصغير على الجسر بعضا من النهار ، وحينما تغمر مياه الفيضان القرية وينطح بيوتها، ينزل الماء مع لداته ويلعبون وهم فرحين بماء الفيضان ، وكانوا يتسابقون ويتنافسون على تسلق صوارى المراكب الراسية بجوار القرية ويقفزون من قمتها إلى الماء ، وذلك منذ بداية الفيضان فى شهر أغسطس .
كان مدللا للغاية ، خفيف الظل ، نحيف العود ، براق العينين ، سوداء اللون .
ويقول محمود(1) : "ومع أن أمى لم تكن حاصلة على شهادة دراسية ، إلا أنها كانت متعلمة .. وإليها لا إلى أبى يرجع الفضل فى تعليمى القراءة والكتابة .. ومن الطريف أنها قامت هى نفسها بهذه المهمة ، ولنذكر أن ذلك كان فى عام 1915 تقريبا ؛ وعلى لوح من الأردواز ، بدأت أكتب وأحفظ الحروف الهجائية .
وكانت أمى ككل الأمهات فى ذلك العهد ، تتفاءل برؤية مولد الهلال .. ففى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد بى إلى سطح المنزل الواسع (بيت الوسية) فى قرية الأكراد حيث تزوجت وولدت أنا .. وترنو إلى الهلال ، وهى تقرأ بعض سور القرآن .. واضعة يدها على وجهى مقبلة جبينى .. داعية الله أن يقينى شرور الحياة " .
* * *
ولدت فاطمة فى عام 1911 وبعد أن كبرت وبلغت سن الزواج ، تزوجت من إبن عمها فؤاد " إبن عمدة الأكراد السابق محمد " وأقامت فى مدينة أسيوط ورزقها الله بولد واحد وثلاث بنات .
* * *
ولد أبو الفتوح فى الأول من شهر مايو سنة 1914 وبعد حصوله على البكالوريا من مدرسة الخديوية الثانوية بالقاهرة ، سافر إلى فرنسا ودرس القانون والعلوم السياسية بجامعتى باريس وتولوز ، وبعد حصوله على إجازة الليسانس فى القانون والعلوم السياسية من جامعة تولوز عاد إلى مصر ، والتحق بالعمل فى وظيفة باتحاد مصدرى الأقطان بالإسكندرية ، ثم حصل على أجازة خاصة بدون مرتب وسافر فى نوفمبر عام 1961 إلى فرنسا لإتمام دراسته ، وحصل على إجازة الدكتوراه فى القانون والعلوم السياسية من جامعة تولوز فى 20/12/1962 وعاد إلى مصر ثم التحق بالعمل كمشرف على أعمال جامعة بيروت العربية بالإسكندرية .
* * *


رابعا : وفاة والدة محمود البدوى

كانت أم محمود حاملاً حينما توفى والدها ، فأصابها الحزن والكرب العظيم ، فأثر ذلك على صحتها وعلى الجنين ، وفى أثناء الولادة عام 1915 بالبيت ، ماتت ، ولم ير الطفل النور وإنتهى معها .
إنطلق الصراخ من جنبات الدار وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم وإنتقل منها إلى القرى المجاورة ، وحضرت الجموع وتحولت القرية إلى مناحة ، فولولت النساء ولبسن السواد ولطمن الخدود ، وارتفع صراخهن ، ولطخن وجوههن بالزهرة الزرقاء ، وأهلن على رؤوسهن التراب ، وحملت إحداهن رقا وطافت فى طرقات القرية تحمل لأهلها خبر الفاجعة ، وإزداد ورود النساء وهن ينشجن نواحًا تتفطر له القلوب ، وكلما تعدد إحداهن محاسنها وخلقها وأفعالها وأعمالها يزيد صراخهن ويشتد لطمهن للخدود ، وكل حاضر من هذه الجموع يصرخ والأطفال الصغار يبكون فى حرقة .
ومحمود يشاهد هذا كله بعين الطفل ، فلم يكن بلغ السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته ــ وهو الذى لم يعرف الحزن ــ يرى الموت يدخل البيت، ومنظر النساء الباكيات حوله ؛ ففطر قلبه وشعر فى أعماقه بالتعاسة ، وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى .
وحمل الجثمان بالمركب ــ صندل بموتور يدار بالفحم ــ ورافقه الأطفال وأفراد الأسرة وأهالى القرية ، وسار المركب إلى دار أبيها ، ونقل الجثمان إليه، وتكررت مأساة الصراخ والعويل ولطم الخدود من نساء أهل قرية إتليدم، وحمل مرة أخرى ونقل بالمركب حتى شرق النيل حيث دفنت بجوار والدها ، وعاد الجميع إلى الأكراد ، واستمر العزاء مدة أربعين يومًا .
ويقول محمود البدوى(1) : "وحتى اليوم لا تزال تتراءى لى النسوة المجللات بالسواد ، والنواح العميق الحقيقى الذى يصدر عن عواطف صادقة.. ويقطع القلوب .. مما حفر مظاهرة الحزينة فى أعماقى إلى الدرجة التى تجعلنى إلى الآن .. بعد مضى حوالى ستين سنة أبغض الجنازات بغضا شديدًا" .
* * *
حالة محمود البدوى بعد وفاة والدته

تبدل وتغير حال محمود وإنقلب كيانه بعد أن ماتت أمه وانقلب لعبه وضحكه ومرحه وشقاوته إلى حزن وانطواء ، فقد كانت الفاجعة أكبر من أن يحتملها طفل فى مثل سنه وتكوينه ، وإرتسمت مسحة الحزن على وجهه ، فذبل جسمه وإصفر لونه ، فكان ينزوى سحابة النهار وطول الليل فى المزارع والحقول هائما شاردًا لا يحادث أحدًا ، وكان أحد الخفراء يتبعه كظله فى كل حركة ، وحينما ينهكه المشى والتعب يعود إلى البيت لينام ، وكان يشعر بأنه قريب من الموت الذى أخذ أمه فجأة دون سابق إنذار وهى فى بكائر أيامها وربيع عمرها ، وأصبح يستريح إلى رهبة الليل وسكونه وهوله .
كلما كان يسمع صريخ نساء القرية وبكائهن على أحد الأموات ، يصيبه الفزع والذعر ويدخل عليهن صارخًا طالبا منهن أن يكفوا ، فقد كانت صورة أمه متمثله أمامه دوما وفى كل حين .
وأصاب والده البلاء والكرب العظيم ، فشعر بعد فراق زوجته بالوحشة والانقباض والضجر ، واستبشر بالصبر ونزل على حكم القدر وسلم أمره إلى الله ، وزاد عطفه على أولاده ودللهم وكان يأتى لهم بأكثر مما يحتاجون إليه ، وكانوا فى رعاية جدتهم (أم الأب) وإحدى النساء من العاملات فى البيت والتى كانت بمثابة المربية وعرفت محمود أن الاهتمام أو الحب لا ينبع من داخل الأسرة فحسب بل يمكن أن يأتى من الخارج .
أثرت الفاجعة فى داخل محمود وفى حياته ولازمته خلال فترة تقدمه فى السن .. ويقول : "أحسست بالحزن لأول مرة فى حياتى عند موت والدتى ، وكنت فى السابعة من عمرى ، ولأن جنازتها كانت مفجعة .. كرهت بعدها كل الجنائز وحتى الأفراح ، كرهت كل التجمعات"(1) "ومن موت والدتى تبدأ القتامة من هذا الحدث ويمكن هذه القتامة هى التى تجعلنى أتجه بحواسى باستمرار إلى الناس المضطهدين المعذبين فى الحياة ، إتجهت إلى ذلك بالفطرة ، لأن حياتى لم تكن سهلة ، وهذا جعلنى أتجه بحواسى كلها إلى الناس الذين يعانون ، وليس معنى هذا أنى كنت أعيش فى ضنك ، أبدًا ، المسألة أن هذه الصورة ، وهى موت الوالدة فى سن مبكرة ، والوالد عاش فترة طويلة لا يتزوج إحتراما لذكراها ولكى يربى أولاده ، هذه الصورة كانت تولد فى النفس إحساسًا غريزيا بألم الآخرين .
وقد ظلت هذه الصورة ماثلة خلال التقدم فى السن وعبر إتساع الأفق وترامى النظر للحياة ، وحتى الناس الذين يسميهم المجتمع مجرمون أو قطاع طرق ، أجد دائما مبررًا قويا لسلوكهم والتوائهم عن الطريق ، ودائما أقول ــ كما يقول ديستويفسكى ــ ليس بين الإنسان ، أى إنسان ، وبين الجريمة غير خيط رفيع جدًا ।
كما أن بداية القراءة لكاتب مثل مصطفى لطفى المنفلوطى ، وهو كاتب حزين ونظرته إلى الناس المظلومين المحرومين من متع الحياة ، قامت بدورها بتعميق هذا الميل أو هذا الاتجاه(1) " .
* * *
(1) ص. الأنوار 5/3/1978 .

الفصل الثانى : مرحلة التعليم

الفصل الثانى : مرحلة التعليم
كتاب القرية
التعليم الإبتدائى بمدرسة أسيوط
التعليم الثانوى بالقاهرة
تعلم الموسيقى
المرور على المكتبات
كلية الآداب
كتاب القريـــــة


بعد وفاة والدة محمود وما حدث فى جنازتها المفجعة والألم الذى أصابه وألم به ودفن داخل قلبه ، ظهر على السطح فى تصرفاته وافعاله ، وحينما بدأت تنقشع الغمه وترتاح نفسه قليلا ، ذهب كأخيه محمد وأعمامه الذين سبقوه إلى كتاب القرية ـ كتاب مسجد الخطباء ـ ليتعلم فيه القراءة والكتابه وليحفظ فيه القرآن الكريم .

ويقول .." أعتدت وأنا صغير أن أصلى الفجر فى مسجد الخطباء بالقرية وكان يقع فى الطرف الشمالى من حدودها وحوله البساتين وعلى إمتداد البصر المزارع .
وهو طيب الهواء فى الصيف والشتاء ، وفى الصيف على الأخص ، لأن أثره ولفحه يمتد فى الصعيد .

وفى هذا المسجد كان الكتاب الذى تعلمت فيه القراءة والكتابة ، وحفظ آيات من القرآن الكريم ، وكان المعلم من أسرة الخطيب الذى سمى باسمها المسجد .

وفى هذا المسجد بئر إشتهرت بمائها العذب ، فتحولت اليها نساء القرية يملأن منها جرارهن ، ويفضلن ماءها الصافى عن كل ماء ، مع أن القرية تقع على شاطئ النيل ، وينطح ماء الفيضان (قبل عمل السد) جدرانها وبيوتها .

ولكن لكل ماء عند هاتيك النسوة .. وكن يأتين إلى بئر المسجد فى صحوة الفجر ويفضلنها على عتمة الليل .

وكان يعمل على البئر " ملا " اسمه " سيد " مربوع الجسد كأنه صب صبا.. لا يكل ولا يمل وهو يحرك الدلو .. دون أن يراه .. إمتلأ أم خرج فارغاً .. وحسبه صوت الماء .

وكان جميل الصوت قويه ولهذا كان يؤذن الفجر فى المسجد .. وإذا جاءت النسوة إلى منطقة البئر فى ساعة الفجر لا يجدن سواه قائما .. فيداعبنه لأنه أعمى ومكسور الخاطر .. ويجد هو فى هذه الدعابة سلواه الوحيده وأنيسه ، وينشط لمساعدتهن ويحمل عنهن الجرار الثقيلة إلى أن تستوى فى وضع هندسى على رؤوسهن
(1) وكان الفلاحون يشربون من القنوات ويغتسلون أو يشربون من ماء الساقية .

بعد عودة محمود من الكتاب يذهب إلى الحقول والغيطان ويشاهد الفلاحين متناثرين هنا وهناك فى قلب الحقول وفى أطرافها ، ويراهم وهم شبه عراه ، يعزقون الارض ويسقون أو يشقون القنوات الصغيرة ، ويغوصون بأرجلهم فى الوحل وأجسامهم تنضح عرقا ، كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب . وفى الليل يرى بصيصا من النور فى بعض الحقول البعيدة حيث يصطلى الفلاحون يالنيران أو يصنعون الشاى على أعواد البوص والحطب ويقطع سكون الليل صوت الكلاب ، والفلاحون الذين يبيتون فى المزارع يطلقون فى الليل الرصاص من بنادقهم على غير هدى لمجرد الإرهاب.

ويقول .. " عشت فى الريف مرحلة طيبة وخصبه من حياتى .. أثرت فى تأثيرا بالغا وزودتنى بزاد من الكتابه لا ينفد .. ومازلت أتمثل الريف الآن وأنا اكتب كأنه أمامى حتى بعد ان تركته .. النيل .. والمزارع .. والاجران .. ورجال الليل .. وأزيز الرصاص .. ونباح الكلاب
(1) " وكل إنسان يحب الليل . وأنا بطبعى أحبه ، وأحب سكونه ، ولأن نشأتى ريفية ، قضيت هذا الليل فى المزارع والحقول والبساتين ، وكنت احس بعمق هذا السكون والظلام وما ينشأ فيه ويخرج منه من قطاع طرق وغارات فى الليل للسرقة والأخذ بالثأر ، وهذا الجو لا يمكن ان أنساه(2)

التعليم الابتدائى بمدينة أسيوط

تقدم محمود للالتحاق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وكانت تجرى فى ذلك الوقت إختبارات تحريرية وشفوية لراغبى الالتحاق بهذه المرحلة من التعليم ، ويمر منها من يجيد القراءة والكتابة ويعرف قواعد الحساب وحلها ، وإجتاز الإمتحان ودخل المدرسة ، وكان يقيم فى المدينه شقيقه الاكبر محمد الذى كان يدرس بمعهد أسيوط الدينى الازهرى ، فأقام معه ، وكان يقوم على خدمتهما ورعاية شئونهما رجل من عند والده ومن أهل القرية ، وأنهى شقيقه دراسته من المعهد وإنتقل إلى القاهرة لاستكمال تعليمة قبل أن يتم محمود دراسته الإبتدائيه .

وجد محمود نفسه وحيداً ، وكانت تجربته الاولى التى يعيش فيها بمعزل عن أحد أفراد أسرته ، ومن هنا نشأت عنده ضرورة الاعتماد على النفس ، وكان والده يجئ للاطمئنان عليه والاطلاع على أحواله فى بعض أيام الأسبوع.

يخرج محمود من المدرسة يوم الخميس ، يجد الحمار الأبيض الخاص به والذى كان يركبه وهو صغير مع أحد الخدم فى إنتظاره ليركبه ويصل به إلى القرية لقضاء ليلته فيها ـ كان يوجد لدى والده خيول ولكنه كان يخشى عليه من ركوبها ـ ويشعر بسعادة طاغيه ، فيركب الحمار ويستوى عليه ويتخذ هيئة الفارس ويحرك رجليه ليحثه على الاسراع ، ويسرع والغبار يتطاير من أرجل الدابه ، ويركب المعدية لعبور النيل وإختصار الطريق ، فالقرية فى العدوة الأخرى من النيل ، كل ذلك ليقضى ليلته فى الحقول ووسط الفلاحين ومع رفقائه فى القرية ، وكانت سعادته الحقه وهناؤه فى أثناء فترة الاجازه الصيفية .

كان أهل القرية جميعا دون إستثناء رجالاً وأطفالاً يجيدون السباحة والغوص تحت الماء ، ومحمود يتسابق مع رفقائه ولا يشعرون بخوف ولا رعب ولا يرهبون الماء ولا يخافون الغرق ، وقد يخرجون بزورق صغير ويجدفون ويبعدون عن القرية ويتوغلون إلى الجانب الآخر من النيل ، إلى جزيرة القرية الصغيرة ( جزيرة الأكراد ) حيث يوجد جزء من أراضى العائلة ، وهناك يستقبلهم الفلاحون بالبشر والترحاب ويجلسون حولهم خارج العرائش ، ويتندرون ويفيضون بأعذب الاقاصيص والسير ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ، ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقه ، ويمر عليهم فى جلستهم رجال الليل بأثوابهم الداكنه ، مغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف وهم مسلحين بأحدث طراز من البنادق وهم الذين اذا دخلوا قرية فى وضح النهار أرعبوها وأفزعوا أهلها والذين كانت الفرائص ترتعد لذكرهم والقلوب تنخلع لوقع أقدامهم ، ويجلسون معهم يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراه ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجارالعائدين من الاسواق .

ويقول محمود .. " كان رجال الليل يمرون علينا ونحن فى الاجران والغيطان ، وكنا نتبادل الاحاديث ونشرب الشاى ، وباختصار فقد كانت السنوات الثمانى عشر الاولى من حياتى ريفيه بمعنى الكلمة
(1) " " وقد يعجب القارئ إذا علم أن رجل الليل لا يغدر ولا يخون من أمنه .. ويعتبر الغدر خيانه تصمه بالعار ، وتجرده من صفاته كرجل ( إنقرض هذا الرجل الآن .. وبقى ظله وفيه كل صفات الخساسة والوضاعة ) ويدفعه إلى القتل والشر ، حوادث فردية تصيبه بمثل القارعة فتغير من نظام حياته .. وكل إنسان فيه الخير والشر .. وتبعا للظروف والاحوال تبرز هذه الصفة وتضعف تلك .. والشر اكثر الطباع ضراوة عند الإحساس بالظلم(2) " .

يخرج محمود وحده فى بعض الليإلى بزورق صغير يجدف ويسير فى النيل إلى أن يصل إلى سد أسيوط فيمد الحبل ويربطه فى أحد الاشجار على الشط، ويتنزه على الجسر حتى تنقضى فترة من الليل ويعود من حيث أتى مرتاح النفس ناعم البال .

* * *

التعليم الثانوى بالقاهرة

بعد أن أتم محمود تعليمه الابتدائى ، إصطحبه والده إلى القاهرة ليلحقه بالمدرسة السعيديه الثانوية بالجيزه وليسدد له المصاريف ويشترى له حاجاته وليطمئن على مكان إقامته ـ وكان شقيقه الاكبر الذى شاركه بعض الوقت فى السكن بأسيوط وتركه ليكمل تعليمه بالأزهر عاد إلى القرية لمراعاة الارض والزراعة واكتفى بهذا القدر من التعليم ـ وكان والده كثير التردد على القاهرة لمقابلة اصحاب الشأن وانجاز بعض الطلبات التى تحتاجها القرية وحضور المناسبات التى يحضرها الملك والاعيان وذوى النفوذ ، ويعرف أماكن الإقامة والمبيت فيها من فنادق وبنسيونات ، فاختار لمحمود إحدى الغرف المفروشة بالقرب من المدرسة .

وأحس محمود بالفراغ وبحكم طباعه الريفية المتأصلة نفر من أهل المدن فلم يستطيب صحبتهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه وقارنها بحياة الناس فى المدينة ، ويشعر بالضيق الشديد ، ومع مرور الوقت رضخ لحكم الواقع ، ثم أخذ يحاول ان يرفع الحاجز بينه وبين أهل المدينة بالتدريج واستطاب العيش فيها إلا أن حنينه إلى الريف لم ينقطع .

* * *

عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم ، فاختار لسكنه إحدى الغرف المفروشة بالحلميه الجديدة ليكون بجوار الدار وكانت هذه الغرف موجودة بكثرة فى قلب العاصمة فى حى عابدين وفى حى قصر النيل على الأخص حيث يكثر الافرنج ، فكانت هذه الاسر تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن اهليهم ، وكان كثير التنقل بينها ويستقر ويحط ترحاله بعد أن يجد الاسر الهادئة الكريمة الخلق والحجرة الطيبه الهواء والمفروشة ببساطه وأناقة .

وعن هذه الفترة يقول .. " فى فترة الدراسة لم يكن لى أهل بالقاهرة فنزلت فى كثير من البنسيونات وصورت الحياة فيها ، ففى هذا الوقت كان كل أصحاب البنسيونات أجانب ، وإختلطت بمجموعة كبيرة جدا من البشر على إختلاف أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم وطبائعهم
(1) .. خالط مختلف الاجناس من الأجانب أروام وطلاينة وانجليز وفرنسيين ومالطيين .



تعلم الموســـيقى

كان محمود البدوى يجد لذته الكبرى فى الاستماع إلى الموسيقى .. فاجنر وبيتهوفن وتشايكوفسكى وهاندل ........ ولحبه وعشقه لها أراد أن يتعلمها، وتعلمها فعلا على يد رجل موسيقى من أصل تركى ، وكان يذهب اليه بعد الفراغ من دروسه المدرسيه وبعد أن تقفل دار الكتب أبوابها ، ويسكن المعلم قريبا من الدار ، ثم جاءت فرصته فى أن يتعلمها بمعهد الموسيقى العربية .

ويقول .. " كنت أحب الموسيقى .. وذات يوم سألنا الاستاذ الابحر مدرس الرياضة بالسعيدية .. قبل أن يبدأ الدرس .
ــ من منكم يود أن يدرس الموسيقى مجانا .. ؟

فرفعنا أيدينا فرحين ..

ــ أين يا أستاذ ..
ــ فى معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية .. وعسكر .. يكتب اسماء الراغبين فى آخر الحصه .

فتقدمت مع من تقدم من الطلبه .. وكان الاستاذ الأبحر هاويا للموسيقى ومن أساتذة المعهد ، وكان المعهد فى حاجة إلى معونة سخية من وزارة المعارف .. فرأى أن يضم لفصوله الدراسيه ، بعض طلبه المدارس الثانويه الأميرية .. ليعزر طلب المعونة .


محمود البدوى مع أصدقاء بمعهد فؤاد الاول للموسيقى العربية

وتتلمذت على أساتذة أجلاء .. مصطفى رضا بك .. وصفر على بك والعقاد الكبير عازف القانون المشهور .. وامين بك المهدى أعظم عازف على العود فى الشرق .. وكان أمير الشعراء شوقى بك .. يزور الفصول يوميا .. ويقف على باب الفصل صامتا دقيقه واحده وفى فمه السيجار .. وندر ما ينطق أو يوجه الينا سؤالاً .. ثم يذهب سريعا كما جاء ..

وبعد الدراسة التمهيديه الطويله .. إخترت الكمنجه كآلة .. وكان هذا من سوء إختيارى لأن دراستها صعبه .. وكنت استعد للبكالوريا بكل جهودى فأهملت الموسيقى .. وإنقطعت عن المعهد
(1) "

كان يغادر الغرفة إلى الريف مخلفا فيها أمتعته وكتبه فى اثناء الاجازات الدراسيه ، متلهفا على قضائها بين أحضان الريف ــ بعد أن ضاق ذرعاً بالقاهرة وضج بما فيها ــ حاملا معه آلة الكمان وهو فرح طروب ليملأ عينيه بما حوله من جمال وسحر وليشاهد الزوارق الشراعيه وهى تسبح فى النيل ، ويعبر خزان أسيوط إلى العدوة الأخرى من النيل ليرى محاسن الطبيعة ويستغرق فى تأملاته ولتتحرك مشاعره وتزيل تبلد روحه ويجد نفسه فى حالة من الانشراح والتفتح .

كلما سنحت لمحمود الفرصة ، وغادر والده البيت يتناول الآلة الحبيبه إلى نفسه ، ويعالج أوتارها وقوسها ويفتح النوته أمامه
(1) ويبدأ العزف ، ويصل الصوت إلى سمع بنات أعمامه وعماته ـ وكن صغاراً ــ فينادوا بعضهن بعضا ، ويسرعن فى الصعود إليه ، ويتجمعن أمام غرفته ينظرون وهو يقيم الآلة بين كتفه وذقنه ويرسل من أوتارها الأنغام .

* * *

المرور على المكتبات

كان يهوى المرور على المكتبات ويتفحص عناوين الكتب دون كلل أو ملل ولوظل نهار اليوم كلة يسير على قدميه ، فكان مغرما بقراءة الكتب القديمة النادرة الطبع واقتنائها ، فهى فى نظره تحمل فى طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ، فيشترى منها ما يستطيع دفع ثمنه .

وفى أحد الأيام وكان يسير فى مدينه أسيوط أثناء عطلة الأجازة الصيفية ، ذهب إلى مكتبه أدبيه يمت له صاحبها بصله قرابه لشراء بعض الكتب الأدبية فوجد عنده داخل المكتبه شخصين معممين جالسين ويقرأ الأول فى كتاب البيان والتبين للجاحظ وبجواره الثانى ينصت ويستمع اليه وعرفه صاحب المكتبه بهما ، والأول هو محمد على غريب المحرر فى جريدة عظمة الشرق بأسيوط والثانى هو أحمد الحجار من تلاميذ الجاحظ ومن أشد الناس إعجابا به، وتوطدت بين الجميع صداقه قويه ( إستمرت حتى نهاية العمر )

ويقول البدوى .. " التقيت بمحمد على غريب لأول مرة عام 1924 فى مكتبه أدبيه بمدينه أسيوط .

وكان جالساً داخل المكتبة يدخن الشيشة ويقرأ فى كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكان يلبس معطفاً بنى اللون به خطوط بيضاء خفيفة ، وتحت هذا جلابية بيضاء ( افرنجى ) وعلى رأسه عمامه صغيرة كورها كما إتفق .. فلم يكن حسن الهندام .. وكان فى طرف ذقنه شعرات .. وفى جبينه خطوط مع أنه لم يتجاوز العشرين .. وكان بجواره شاب معمم فى مثل سنه ولكنه أطول منه قامه وأكثر نحولاً .. وعرفته أيضاً وهو الاستاذ أحمد الحجار ، وكان غريب يلازم الحجار ملازمه الظل .. والحجار أديب ممتاز من تلاميذ الجاحظ ومن أشد الناس إعجابا به ، وفى بيته مكتبة أدبية عامرة .. فكان غريب يذهب إلى بيت الحجار ويقرأ هذه الكتب ، وكان الاثنان من طلبه الأزهر ولكنهما لم يكونا يحضران الدروس .. وكان غريب ثائرا على الأزهر .

وكان وهو فى الأزهر يحرر فى جريدة إقليمية تصدر فى أسيوط إسمها «عظمة الشرق » وكان يكتب فى هذه الجريدة بابا إسمه الظرفاء وينشر فيه كل اسبوع بالخط الاسود الكبير أسماء سبعه أو ثمانية من الظرفاء .. وكان يقصد بالظرفاء الذين يستثقلهم الناس ؛

وحدث أن وضع فى هذه القائمة شخصا إسمه المعصرانى على ما أذكر .. فجاء هذا المعصرانى وجلس على قهوة مقابله للمكتبه وأخذ يسب جريدة " عظمة الشرق " وصاحبها ومحرريها من العصر إلى الغروب .. وغريب جالس داخل المكتبة يشرب الشيشة فى برود ولا يتحرك ولا ينبس .. وكأن الأمر لا يعنيه .

ومع هذا فقد إستمرت هذه الجريدة تنشر أسماء هؤلاء الظرفاء .. والنتيجة الطبيعية لهذا أن سجن صاحب الجريدة وهرب غريب إلى القاهرة
(1) وغاب فى زحمة المدينة .. وإشتغل محرراً فى مجلة الرسول ، وكان صاحبها يتخذ من مطبعة صغيرة بباب الخلق مقرا ومكتبا .

* * *

كلية الآداب

نجح محمود فى إمتحان البكالوريا والتحق بكلية الأداب بالجامعة المصرية إبان عماده الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وتقوم على خدمته إمرآة شابه مات عنها زوجها فى حادث ، وكانت فى خلال الفترة الموجوده فيها بالبيت لتسويه فراشه وتنظيف الشقه وطهى طعامه ، ترسل شعرها وتلبس الروب ، وبعد أن تقدم له قهوة العصر قبل أن يخرج ويذهب إلى دار الكتب تنصرف إلى بيتها (كان محمود يجعلها تحس بأنها سيدة البيت وليست خادمة)

* * *

جاء والده من الريف لحضور مناسبة من المناسبات ، ونزل عليه للاقامة خلال فتره وجوده بالقاهرة ، وجاءت الخادمة تقدم الشاى للاب ـ وكان ذلك من سوء حظ محمود فإن هيئتها بالصورة التى ذكرتها لا توحى بإنها مجرد خادمه ـ وصعق الاب لرؤيتها فإنه ما كان يتصور أن فى بيته إمرأه ، وحاول محمود بشتى وسائل الإقناع أن يقنع الأب بأنها إمرأة فقيرة ومسكينه ولا عائل لها بعد وفاة زوجها وأنها لا تعدو وأن تكون خادمة ـ كان يهاب والده ويخشى من غضبه ويرتعش من عمل أى شئ لا يوافق رغبته ـ ولكن الأب طلب من إبنه وبحزم عدم وجودها وعليه أن يبحث له عن خادم .



لم يشعر محمود بأى حب للجامعه ، فقد غمره تيار الأدب ، وكان يجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع ليزيد من ثقافته وليوسع مداركه فاستغرقت كل وقته ، وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا ، ويؤلمه عدم وجود الفراغ ليقرأ أو ليطالع من الكتب ما يشاء ويرغب ، فأصبح لا يذهب إلى الجامعة إلا قليلاً ثم إنقطع كلية عنها .
ولم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القريه فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئاً ، وأن يخطو خطوة عمليه ، فاتجه إلى الوظيفه كغيرة من الشبان وترك الدراسة بالجامعة .

يقول محمود « التحقت بكلية الآداب ولم اكمل المشوار لأننى إنتقلت إلى كلية الحياة وهى أرحب ولاشك من كلية الآداب
(1) ولم آسف على ذلك قط» .

ويقول صديقه الناقد علاء الدين وحيد تحت عنوان مأساة حب فى شباب محمود البدوى(2) " كان قد ترك الجامعة ـ كلية الآداب ـ فى عمليه رومانسية تستشعر ضرورة رفع الاثقال عن الاب فى المصاريف"

ولكن الناقد رجاء النقاش يقول بمجلة الشهر عدد يناير 1959 تحت عنوان القصاص الشاعر "عرفت من بعض المتصلين به أنه أصيب بصدمة عاطفيه فى مطلع حياته وهو طالب فى الجامعة ، وقد أدت هذه الصدمة به إلى أن يترك الدراسه بل ترك مصر كلها وسافر لفترة إلى أوربا ، وكان لديه بعض المال فصرفه كله على هذه الرحلة التى أراد بها أن يجرب وينسى .. وربما تكون هذه التجربه هى السبب فى إنطوائه وعزلته"


(1) م . القصة ـ العدد 41 يوليه 1984 .
(1) مجلة آخر ساعه 2152 21 / 1/ 1976 .
(2) ص . الأنوار 5 / 3 / 1978 .
(1) ص . التعاون 3 / 8 / 65
(2) م . الثقافة ـ اكتوبر 1977
(1) م . القاهرة 14 يناير 1986
(1) م . الثقافة اكتوبر 1977
(1) تم أهداء النوته ضمن كتب مكتبته الخاصه إلى دار الكتب المصرية لتوضع بالمكتبه المهداه .
(1) ص . الزمان 9/ 7/ 1950
(1) ص . الجمهورية 25/ 12/ 1975
(2) محمود البدوى ـ علاء الدين وحيد ـ دار سنابل للنشر والتوزيع 2000

الفصل الثالث ـ الحياة العملية

الفصل الثالث ؛ الحياة العمليه

الوظيفة
الرحيل إلى أوربا
حياة البدوى بعد وفاة والده
محمود البدوى وأمين يوسف غراب

الوظيفـــــــة

التحق محمود بتاريخ 12/ 3/1932 بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية بمرتب سبعة جنيهات ونصف .

كلف بالعمل فى مصلحة الموانى والمنائر بالسويس ، فاحتقب حقيبه بها ملابسه وكتبه وترك شقيقه الاصغر أبو الفتوح الذى جاء من الصعيد ليتعلم بالمدرسة الخديوية ، تركه بالمسكن ، ورحل محمود إلى مدينة السويس ، وعندما ذهب إليها لم تكن الحرب العالمية الثانية قد إشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون مدن القناة .. وأقام بفندق بالسويس .. وفى شارع السوق الرئيسى ، وكان يضيق بالضجيج والحركة فى الشارع وركوب القطار كل يوم ليذهب إلى مقر عمله فى بور توفيق .

أخذ يسعى فى العثور على سكن ، ووجد غرفة مفروشه فى بور توفيق مع أسرة إيطاليه تسكن فى منزل صغير على شط القناة ، وكانت تؤجر الغرفة لتستعين بإيجارها على مواجهة الحياة ، وأقام معها فى هدوء وإطمئنان .

وولعه بالمطالعه وحبه للهدوء خففا مما كان يلاقيه من وحدة .. ويقول فى ذكرياته عن مدينه السويس " أنا اكثر من عاشق لها ، إنها مهد ذكرياتى الخاصة "(1) والوحدة وسكنى فى الغرف المفروشة فى القاهرة والسويس جعلانى أعيش عن قرب مع خليط غير متجانس من الناس .. ولقد أفادتنى هذه التجارب كثيرا عندما سافرت بعد ذلك إلى الخارج وتجولت فى البلاد .

كان يصطفى زميلا له يحب رياضة المشى كما كان أديبا .. فكانا يقطعان الطريق من بور توفيق إلى السويس سيراً على الأقدام .. وفى بعض الحالات كانا يواصلان السير إلى الأربعين .. وكان يقرأ ويتحدث عن الأدب .. ويرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا ..
كان محمود أثناء التمشيه على شاطئ القنال يرى المراكب الذاهبه إلى أوربا وهى محمله بخليط غير متجانس من البشر وتطلق صفاراتها وتسير فى القناة منطلقه إلى عرض البحر ، فولدت عنده الرغبه الشديده فى أن يركبها ويجوب الآفاق ، فيجلس على شط القناة ويحلم ويمنى نفسه بأعذب الأمانى وألذ الأحلام ، والصور الذهنية تبرز وتتداعى فى ذهنه رائعه خلابه ساحرة عن جمال المدن الخارجية وروعتها وروعة ما فيها من كثرة قراءاته عنها .

وعاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى الخارج .

* * *

الرحيل إلى أوربا

كانت أوربا عام 1934 تعانى أزمة اقتصادية طاحنه ، والرخص والكساد بعمان كل مكان ، والأزمة الاقتصادية تأخذ بخناق الناس ، وبجنيهات قليله تعيش فى أوربا وتستطيع أن تأكل وجبه غذاء كامله فى أفخم المطاعم بما قيمته ثلاثين مليما .

وكثرت الاعلانات بالجرائد والمجلات المصرية والأجنبية تشجع قرائها على السفر إلى البلاد الأوربيه بجنيهات قليله ، وكان أصحاب شركات البواخر من جنسيات مختلفه التركى .... اليونانى .. المصرى .. إلخ يتنافسون على جذب المقيمين بالبلاد للسفر إلى الخارج ، وكل شركة تذكر إسم الباخرة ومميزاتها وخط سيرها ، وبعضها يظهر صورتها فى الإعلان بطريقه مشوقه وهى فى وسط الماء ، وبعضها يعلن عن السفر من الإسكندرية أو من بور سعيد ذهابا وأيابا والإقامة فى اللوكاندات المفتخرة فى البلاد التى ترسو فيها ومدد الإقامة فى كل بلد من البلدان وميعاد السفر وميعاد الوصول ، وتتراوح مدة الرحلة بين 14 يوم وحتى 42 أو تزيد .

إعلنت إحدى الشركات عن أسعار السفر وعلى الظهر الدك درجة أولى 700 قرش ، درجة ثانية 500 قرش ، درجة ثالثة 200 قرش(1)

كان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته ، وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، معه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم سنه كاملة .

فى صباح يوم من ايام شهر يوليو ذهب محمود إلى مكتب أنيق فخم من مكاتب السياحة تديره حسناء المانية ، وقلب بصره فى صور البلدان ، وبعد بحث طويل واستقصاء دقيق وإمعان فكر .. تخير أرض الدانوب ، وأخرج من جيبه أوراق البنكنوت وتناول تذكرة السفر ومعها تذكرة سكة حديد فى القطار إلى الإسكندرية ، وتحدد ميعاد السفر يوم 3 أغسطس 1934 .

إستخرج جواز السفر فى 25 يوليه 1934 وحصل على أجازه من جهة عمله ، وأخذ فى المرور على السفارات وقنصليات البلاد التى إنتوى زيارتها وحصل على التأشيرات ولكن بعض هذه الدول ليس لها قنصليات فى القاهرة وقنصلياتها فى الإسكندرية ، كالقنصلية الرومانيه ، فأرجأ التأشير إلى حين ذهابه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة ، وأرسل إلى والده خطابا يطلعه فيه عن عزمه على الرحيل إلى أوربا الشرقية ، ولم يخبر أحداً سواه .

خرج ليشترى حاجات السفر ، ويعد كل شئ للرحيل ، فإشترى حزاما جلديا من الجلد الطبيعى له جيوب ليضع فيه النقود ـ كان الأجانب فى ذلك الوقت مشهورين بصناعة الجلود وإتقان الصنعة وكان محمود شاهد هذا الحزام مع الحجاج الذاهبين إلى بيت اللّه الحرام ـ وأخذ طريقه إلى البيت ، ورتب حقيبتين ، الكبيرة وضع فيها ملابسه والصغيرة وضع فيها الكتب المترجمه من الروسية إلى الإنجليزيه ومجموعة طبعات الباتروس والقرآن الكريم ، ووضع النقود فى الحزام وشده على بطنه ولبس ملابسه ليكون آمنا من السرقة فى ليل أو نهار أثناء السفر بالباخرة والقطارات وإقامته بالفنادق .

وصل محمود إلى الإسكندرية ، وخرج من القطار ، وركب السيارة إلى فندق على شط البحر فى محطة الرمل ، وكان سعيداً جزلاً ، طروبا ، وفى الصباح ذهب إلى القنصلية الرومانية وحصل على التأشيرة وعاد إلى اللوكانده لجمع متاعه وإتجه إلى الميناء ليركب المركب والتى كان محدداً لها مغادرة الميناء فى الرابعه من مساء اليوم ، وكاد يطير فرحا ، لأنه سيحقق أمنية عزيزة على نفسه ويركب البحر وحده يجوب الآفاق ..

ويقول علاء الدين وحيد .." وإنتهت إجراءات السفر جميعا ولم يبق إلا الصعود إلى الباخرة .. ولكن سلطات الميناء وأكثر موظفيه من كونستبلات الإنجليز تمنعه .. فى البداية الجمتة المفاجأة ولم يستطع أن ينبس .. أحس بالفراغ .. هل ضاع الأمل حقيقة فى الرحيل ؟ ولكن لماذا ؟ وكيف ؟ ويسترد أنفاسه ثم يعرف ما ومن يختفى وراء هذا القرار .. إنه أبوه ؟ كان صاحبنا قد بعث إلى والده خطابا فى آخر ساعة ينبئه بعزمه على السفر ، وكان رد الأب الذى لم يعلمه الابن .. حديثا تليفونيا إلى عم عمر ضابط البوليس فى الإسكندرية يطلب منعه من السفر وحجزه ؛ ولذلك عندما دخل صاحبنا مكتب بوليس الميناء ثائرا مناقشاً قضيته ، فوجئ بأبيه الذى حضر تواً من الصعيد وعمه جالسين ؛ وعندما تحدث إلى موظف الجوازات عن حق المواطن المصرى الشريف فى السفر بلا قيد أو شرط ، وبلوغه سن الرشد منذ وقت طويل ، وضرورة عدم منعه حتى يلحق بالسفينه قبل أن تغادر الرصيف، وجوبه بصمت الموظف .. حمله صارخاً مسئولية حجزه بلا وجه حق ، ولكن هذا كله لم يفد شيئاً .. وبكى صاحبنا .. لقد خشى عليه الأب من السفر .. ولنذكر أننا فى عام 1934 ، والمفهوم التقليدى السائد آنذاك عند أكثر الناس عن بلاد بره ، أنها مهد الفساد الخلقى والفكرى معا ، زيادة إلى ما ينفثه الجهل فى الأشياء المجهولة من خزعبلات .. خاصة وأنه لم يكن يعرف الطريق إلى مثل هذا السفر إلا الطبقة الثرية فى بلادنا .

ولكن العم وضابط أجنبى يعملان على إقناع الاب حتى يقتنع ، ويسمح للابن الحزين بالسفر ويقوم بتوديعه "

ويغادر الأب والعم الميناء ومحمود لا يصدق بأن والده سمح له بالرحيل وإطمأن قلبه .

عندما ركب الباخره ، وكانت هذه هى المرة الأولى فى حياته سمع صفيرها يرن فى جو الميناء ويتجاوب صداه فىقلب البحر ، ورفعت الباخرة السلم ودارت محركاتها ، وتصاعد دخانها ، وأخذت فى حركة استعراضية تبعد عن الرصيف ، فصعد إلى ظهر السفينه وإتكأ على سورها الحديدى مع الواقفين يرقب حركة المسافرين ويستقبل تحيات المودعين ، ولم يكن له مودع كغيره من ركاب السفينه .







وشعر بسرور وهو يجاوب على تحيات المودعين بمثلها وأخرج منديله الأبيض كغيره من ركاب السفينه يلوح به فى حراره والعيون تغرورق بالدمع، وإنطلقت فى عرض البحر .
لم يصبح وحيدا منذ ركب الباخره ، فاختلط بالركاب وشاهد ألوانا مختلفة
من الناس من كل لون وجنس ، ووجوه كثيره وثقافات متعدده ، وتصادق مع من إرتاحت له نفسه .



ويقول البدوى " سافرت إلى " كونستنزا " على باخرة رومانيه قبل الحرب العالمية الثانيه .. وكان الكساد والبطالة يعمان العالم .. والاسعار رخيصة فى كل مكان ..

وكان إقلاع السفينه من ميناء الإسكندرية .. وعلى ظهرها القليل من المصريين دون سواهم من الاجناس الأخرى .

ولكن فى ميناء " بيريه " ثم بعدها ميناء " أثينا " طلع إلى ظهر السفينة ركاب جدد من كل بقاع الأرض .. فامتلأت السفينه بهم بعد فراغ ..

وعلى مائدة الطعام فى السفينه .. وجدت بجانبى شابا وشابه فى سن متقاربه .. ويبدوان كأخ واخته .. ولكن بعد الحديث الذى دار على المائدة عرفت أنهما زوج وزوجة ، وائتلفنا وأصبحنا نقضى زمن السفر كله معا ..

ووجدت مع " خير اللّه " الزوج وهو فنلندى مسلم روايه مشهورة "لأناتول فرانس " .. فزادت هوايته للأدب منى قربا .. وأصبح حديثا فى لون جميل جذاب تتخلله مشاعر الصبا ، وأحلام الجمال لكل ما نراه فى هذا العالم.

وفى "إستانبول" نزلنا نحن الثلاثه وكان "خير اللّه" يعرفها جيدا فوفر لنا البحث عن دليل .. وطفنا بكل ربوعها ومعالمها "ضلمه بفجه" "وكوبرى غلطة" وصلينا الظهر فى جامع "أياصوفيا" .

ووقفنا على البسفور وقال خير اللّه :

ـ إن من لا يرى البسفور لا يرى الجنة .. ويقصد بكلامه هذا جنة الأرض طبعا فتعالت جنة الآخرة عن كل وصف وتشبيه .

وإنتهت رحلة خير اللّه وزوجته فى "إستانبول" وعدت أنا إلى السفينه وحدى لأواصل السفر إلى البحر الأسود(1) "

كان محمود يتكلم بالإشارة فى كل بلد يزورها ، وقل أن يجد من يتكلم الانجليزية أو الفرنسية اللتان يجيدهما .

فى كل بلد يحل بها يخرج يتجول مع أنفاس الصباح يجتلى مجالى الطبيعة ، يذهب ويتحرك هنا وهناك على غير وجهة وعلى غير هدى ، يشاهد مدنها ويتقدم ويتوغل فى طرقاتها وينظر إلى حدائقها ومنازلها ويرمى المارين بنظرة سريعة هادئا مسروراً ، ويستعرض حوانيت بائعى الكتب القديمة والحديثه ، ويقف يقرأ عناوينها ويغرق فى بحار من الفكر ، ومن مكتبه بوخارست اشترى كتب "لاسكاروا يلد ولورنس وجويس(1) وإذا عضه الجوع ورمق أحد المطاعم يميل إليه ليأكل ويجلس بعد الطعام ليستريح .

* * *

ومنذ عودة البدوى من الرحلة وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية ، وطاف وجال فى أوربا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية .

وحينما ذهب البدوى إلى دمنهور فى الثلاثينيات من القرن العشرين والتقى بأدبائها فى مقهى المسيرى وجد الغالبية منهم لم تكن قد خرجت من المدينة وتعجب وقال "من أين تأتى التجارب ، ويزخر الرأس بالأفكار .. فليسافر الأديب وليسافر ، ففى السفر تلتقى بأصناف مختلفة من البشر وتحتك بهم وقد تتعاطف معهم وقد تنفر منهم ، وقد تجد بينهم بطلة لقصه" .

حياة البدوى بعد وفاة والده

توفى والد محمود البدوى فى 19 يناير سنة 1941 ووجد نفسه مسئولاً، فذهب إلى إعلانات الأهرام وسدد تسعون قرشا صاغا فقط مقابل نشر إعلان بالصحيفة عن الوفاة، ونشر الإعلان فى 20/1/1941 بالعدد 20246 وجاء فيه.

الشيخ أحمد حسن عمر

انتقل إلى رحمه ربه الشيخ أحمد حسن عمر عمدة الأكراد وعميد عائلة عمر ، والد الشيخ محمد من العلماء ومحمود بالماليه وأبى الفتوح بالمدارس العالية وشقيق حضرات رياض العمدة السابق وحسين رئيس السجل التجارى ببنها والصاغ عمر أركان حرب الحاكم العسكرى بالقنال واليوزباشى حفظى رئيس مباحث شبين الكوم ومحمود وكيل نيابه كفر الشيخ وزينهم من الأعيان وعم الطيب ويس وفؤاد من الأعيان وحسن رياض بالمواصلات وابن عم محمد الصادق نائب العمدة وخال الأساتذه عبد الحكيم أبو المعالى بالمحاكم الشرعيه وثابت أبو المعالى المدرس بمعهد أسيوط ومجدى من الأعيان وعبد الهادى طالب ثانوى وابن خال الشيخ عزب عثمان وصهر الحاج حسن إبراهيم بالطوابية ومصطفى بك التونى عمدة أتليدم والأستاذ شوكت التونى المحامى وقريب عائله عبد الهادى ومحمد سيد بشطب وستقام ليالى المأتم بديوان العائله بالأكراد مركز أبنوب"

كما وجد نفسه مسئولاً عن إدارة الأطيان الزراعية التى آلت إليه عن طريق الميراث والأراضى التى أعطاها له والده حال حياته فى عامى 1935 و1937 ونقلت إليه ملكيتها بعقود مسجلة ، ويتعين عليه أن يقيم فى الريف وبجوار الأرض لمراعاة الأنفار وإعطائهم أجورهم وتفقد الزرعة خشيه هلاكها ويضيع ماله ، وكان يسجل مصروفات الزراعة فى دفتر صغير .. (السماد ـ التقاوى ـ أجر عربة نقل السماد والتقاوى ـ جاز لادارة ماكينة الرى ـ زيت ـ تصليح الماكينه ـ أجر أنفار الرى ـ كوز للزيت ـ صفيحة جاز ـ أجر مشال ـ سباخ للزراعة الصيفى ـ ضم المحصول الشتوى ـ أجر عامل تطهير القنوات ـ ضم المحصول الصيفى ـ أجر أسطى الماكينه ـ أجر أنفار) ومن الملفت للنظر أن أجر عامل السقيه فى ذلك الوقت من عام 1941 35 مليم واجر أسطى ماكينه الرى 45 مليم وأجر النفر 30 مليم . كما كان يسجل بالدفتر أثمان بيع المحصول الصيفى (قمح ـ ذره صيفى ـ ذره شامى ـ تين ـ قطن) والمحصول الشتوى (فول ـ عدس ـ حلبه) .

بعد مدة من الزمن قام البدوى بتأجير الأرض إلى الفلاحين ، وفى نهاية شهر سبتمبر من كل عام يترك بيته فى القاهرة ويسافر إلى الصعيد ، وبمجرد أن يراه أحد الفلاحين سائرا على الجسر متجها إلى الدار يسرى الخبر بينهم فيتدافقون ويتسابقون فى الوصول إليه ، كل منهم يريد أن يستأجر قطعة ، ومنهم من كان يزيد فى قيمة الإيجار ليفوز ولو بقطعة صغيرة ، وكان المستأجر يسدد الإيجار بالكامل عند التوقيع على العقد والذى كانت مدته سنة زراعية واحدة .

بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعى كان يذهب إلى الفلاحين فى موسم جمع المحصول ويستعمل كل وسائل المواصلات للوصول إليهم ويلاقى المشقه وتعب الأعصاب فى كل مشوار للعثور عليهم ـ يكون ذلك نهاراً ـ وإذا وجدهم يحتفون به ويفرشون له حراما فى ظل عريشة إتقاء من حرارة الشمس الملتهبه ، ويجلسون ويلتفون حوله مرحبين ، ويقدمون له الشاى ويدعونه إلى الطعام ، إلا أنهم حينما يسمعون كلمة الإيجار فكأنما لسعتهم عقرب ، ويقضى النهار كله فى منازعات وجذب وشد وكل واحد يريد أن يترك له جزءًا من الإيجار لأن زراعته بارت وفسدت ، ومنهم من كان يدعى أن جاره أخذ جزءًا من القطعة المؤجره له ، أو أن النيل قد أكل جزءًا منها ويطلبون قياسها ، فكان يعطف ويشفق عليهم ويتأثر بكلامهم ويتنازل لهم عن جزء من الإيجار .

وبعد ما عاناه من مشقه عهد الأمر كله إلى وكيل عنه من أهل البلد ليحصل الإيجار ويريحه من مشقة السفر ومن المشوار وإيداع الأموال ببنك مصر فرع أسيوط لتحويله وإضافته إلى حسابه بفرع البنك بالقاهرة)

* * *

محمود البدوى
و
أمين يوسف غراب


يقول أمين يوسف غراب فى كتابه نساء الآخرين الصادر عن المكتب التجارى ببيروت عام 1958 تحت عنوان "أشهر حب"

تربطنى بالزميل الأستاذ محمود البدوى القصاص المعروف صلة صداقة متينة منذ زمن بعيد ، ترجع إلى عهد الصبا وأحلام الشباب ، وبالرغم من أننا لسنا من بلدة واحدة ، فهو أسيوطى من أغوار الصعيد ، وأنا دمنهورى من أغوار الوجه البحرى وتختلف مشاربنا فى أشياء كثيرة إلا أننا أنفقنا معا أجمل أيام العمر وأهنأ ساعات الحياة ، وكنا نقطن معا فى مسكن واحد فى القاهرة، ولكننا لم نكن نستقر فى بيت واحد أكثر من شهور ، فقد انتقلنا إلى عدة بيوت فى أنحاء القاهرة تزيد على العشرة .

وكان هذا يسبب لنا متاعب كثيرة وأشهد بأننى كنت المتسبب فى هذه المتاعب فهو كما قدمت صعيدى ـ يتمسك بصعيديته الأصلية وتقاليدها القاسية ولا يحيد عما وضعته المثل والأخلاق ، وهو لا يشرب الخمر ولا يعرف النساء ولا يحب السهر ، وكل لذته فى الحياة أن يطوف طوال النهار على المكتبات ودور النشر يتفحص عناوينها من خلف الزجاج ومع ذلك لا يشترى شيئا .

وعندما يجهد وتخور قواه من كثرة السير على الأقدام والتجول فى شوارع القاهرة يذهب إلى قهوة متاتيا بالعتبة الخضراء ويشرب فنجانا من القهوة ليستريح . وكان يفضل هذه القهوة على غيرها لأنها أمام سور حديقة الازبكية الذى تباع على جداره الكتب القديمة بأبخس اثمان فقد كان من زبائن هذا السور الدائمين يقطعه عشرات المرات يروح ويجئ لا ليشترى شيئا .. ولكن ليقف أمام كتب الأدب يجتر أحزانه أسفا على الأدب وسوقه البائرة وقداسته التى ذهب احترامها وضاعت هيبتها وانتهكت حرمتها انتهاكا على هذا السور اللعين .

وكنا إذ ذاك نقطن فى شارع قنطرة الدكة ، نجيب الريحانى الآن ، ومع أن العمارة التى نقطن إحدى شققها كانت عمارة ضخمة يختلط فيها الحابل بالنابل والداخل فيها أكثر من الخارج منها ، وفيها أكثر من بنسيون ، وفيها أيضا أكثر من امرأة جميلة ، إلا أن محمودا كان يحرص جدا على أن يحترم قداسة البيوت لا شأن له بغيره من الناس ولا بمن يجاورونه فى السكن . وقد أعطانى درسا فى هذا عملت به حينا . إلا أننى ذات يوم تعرفت على فتاة رومية كان اسمها لوسى وكانت تقطن فى الحى وتوطدت صلتى بها وانتهزت فرصة عطلتها الاسبوعية ودعوتها لزيارتى فى البيت .

وقد لبت الدعوة عن طيب خاطر ، وقضينا يوما جميلا ، وعرف محمود ذلك فغضب غضبا شديدا ولم ينم ليلتها .

وكانت كل أحزانه وهمومه كيف سيلتقى ببواب العمارة بعد ذلك وهو الذى كان يجله ويحترمه وينهض واقفا كلما رآه ، وينظر إليه تلك النظرة التى كانت تطرب محمود لإنها تنم عن احترام كبير .

وعبثا حاولت أن أقنعه بأن نظرة البواب لن تتغير وستظل تنم عن ذلك الإحترام الذى كان . فهو الذى أستقبل . لوسى عند مجيئها وهو الذى رحب بها وهو الذى أوصلها إلى مكان الشقة وهو لم يفكر أبدا فى شئ من هذا الذى يفكر فيه ، ولكن محمودا لم يقتنع بحرف مما قلت .

وفى الصباح لم يذهب إلى عمله فى وزارة المالية ، ولم يطف على المكتبات ودور النشر يتفحص عناوين الكتب من خلف الزجاج ، وإنما قضى النهار كله فى البحث عن سكن آخر غير هذا الذى أفتقد فيه إحترام البواب وأنتهكت فيه حرمة البيوت .