الاثنين، ١٧ ديسمبر ٢٠٠٧

كتاب القرية


كتاب القريـــــة


بعد وفاة والدة محمود وما حدث فى جنازتها المفجعة والألم الذى أصابه وألم به ودفن داخل قلبه ، ظهر على السطح فى تصرفاته وافعاله ، وحينما بدأت تنقشع الغمه وترتاح نفسه قليلا ، ذهب كأخيه محمد وأعمامه الذين سبقوه إلى كتاب القرية ـ كتاب مسجد الخطباء ـ ليتعلم فيه القراءة والكتابه وليحفظ فيه القرآن الكريم .

ويقول .." أعتدت وأنا صغير أن أصلى الفجر فى مسجد الخطباء بالقرية وكان يقع فى الطرف الشمالى من حدودها وحوله البساتين وعلى إمتداد البصر المزارع .
وهو طيب الهواء فى الصيف والشتاء ، وفى الصيف على الأخص ، لأن أثره ولفحه يمتد فى الصعيد .

وفى هذا المسجد كان الكتاب الذى تعلمت فيه القراءة والكتابة ، وحفظ آيات من القرآن الكريم ، وكان المعلم من أسرة الخطيب الذى سمى باسمها المسجد .

وفى هذا المسجد بئر إشتهرت بمائها العذب ، فتحولت اليها نساء القرية يملأن منها جرارهن ، ويفضلن ماءها الصافى عن كل ماء ، مع أن القرية تقع على شاطئ النيل ، وينطح ماء الفيضان (قبل عمل السد) جدرانها وبيوتها .

ولكن لكل ماء عند هاتيك النسوة .. وكن يأتين إلى بئر المسجد فى صحوة الفجر ويفضلنها على عتمة الليل .

وكان يعمل على البئر " ملا " اسمه " سيد " مربوع الجسد كأنه صب صبا.. لا يكل ولا يمل وهو يحرك الدلو .. دون أن يراه .. إمتلأ أم خرج فارغاً .. وحسبه صوت الماء .

وكان جميل الصوت قويه ولهذا كان يؤذن الفجر فى المسجد .. وإذا جاءت النسوة إلى منطقة البئر فى ساعة الفجر لا يجدن سواه قائما .. فيداعبنه لأنه أعمى ومكسور الخاطر .. ويجد هو فى هذه الدعابة سلواه الوحيده وأنيسه ، وينشط لمساعدتهن ويحمل عنهن الجرار الثقيلة إلى أن تستوى فى وضع هندسى على رؤوسهن
(1) وكان الفلاحون يشربون من القنوات ويغتسلون أو يشربون من ماء الساقية .

بعد عودة محمود من الكتاب يذهب إلى الحقول والغيطان ويشاهد الفلاحين متناثرين هنا وهناك فى قلب الحقول وفى أطرافها ، ويراهم وهم شبه عراه ، يعزقون الارض ويسقون أو يشقون القنوات الصغيرة ، ويغوصون بأرجلهم فى الوحل وأجسامهم تنضح عرقا ، كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب . وفى الليل يرى بصيصا من النور فى بعض الحقول البعيدة حيث يصطلى الفلاحون يالنيران أو يصنعون الشاى على أعواد البوص والحطب ويقطع سكون الليل صوت الكلاب ، والفلاحون الذين يبيتون فى المزارع يطلقون فى الليل الرصاص من بنادقهم على غير هدى لمجرد الإرهاب.

ويقول .. " عشت فى الريف مرحلة طيبة وخصبه من حياتى .. أثرت فى تأثيرا بالغا وزودتنى بزاد من الكتابه لا ينفد .. ومازلت أتمثل الريف الآن وأنا اكتب كأنه أمامى حتى بعد ان تركته .. النيل .. والمزارع .. والاجران .. ورجال الليل .. وأزيز الرصاص .. ونباح الكلاب
(1) " وكل إنسان يحب الليل . وأنا بطبعى أحبه ، وأحب سكونه ، ولأن نشأتى ريفية ، قضيت هذا الليل فى المزارع والحقول والبساتين ، وكنت احس بعمق هذا السكون والظلام وما ينشأ فيه ويخرج منه من قطاع طرق وغارات فى الليل للسرقة والأخذ بالثأر ، وهذا الجو لا يمكن ان أنساه(2)

ليست هناك تعليقات: