الثلاثاء، ٢ أكتوبر ٢٠٠٧

الفصل الثالث ـ الحياة العملية

الفصل الثالث ؛ الحياة العمليه

الوظيفة
الرحيل إلى أوربا
حياة البدوى بعد وفاة والده
محمود البدوى وأمين يوسف غراب

الوظيفـــــــة

التحق محمود بتاريخ 12/ 3/1932 بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية بمرتب سبعة جنيهات ونصف .

كلف بالعمل فى مصلحة الموانى والمنائر بالسويس ، فاحتقب حقيبه بها ملابسه وكتبه وترك شقيقه الاصغر أبو الفتوح الذى جاء من الصعيد ليتعلم بالمدرسة الخديوية ، تركه بالمسكن ، ورحل محمود إلى مدينة السويس ، وعندما ذهب إليها لم تكن الحرب العالمية الثانية قد إشتعلت .. ولم يكن الإنجليز يعسكرون مدن القناة .. وأقام بفندق بالسويس .. وفى شارع السوق الرئيسى ، وكان يضيق بالضجيج والحركة فى الشارع وركوب القطار كل يوم ليذهب إلى مقر عمله فى بور توفيق .

أخذ يسعى فى العثور على سكن ، ووجد غرفة مفروشه فى بور توفيق مع أسرة إيطاليه تسكن فى منزل صغير على شط القناة ، وكانت تؤجر الغرفة لتستعين بإيجارها على مواجهة الحياة ، وأقام معها فى هدوء وإطمئنان .

وولعه بالمطالعه وحبه للهدوء خففا مما كان يلاقيه من وحدة .. ويقول فى ذكرياته عن مدينه السويس " أنا اكثر من عاشق لها ، إنها مهد ذكرياتى الخاصة "(1) والوحدة وسكنى فى الغرف المفروشة فى القاهرة والسويس جعلانى أعيش عن قرب مع خليط غير متجانس من الناس .. ولقد أفادتنى هذه التجارب كثيرا عندما سافرت بعد ذلك إلى الخارج وتجولت فى البلاد .

كان يصطفى زميلا له يحب رياضة المشى كما كان أديبا .. فكانا يقطعان الطريق من بور توفيق إلى السويس سيراً على الأقدام .. وفى بعض الحالات كانا يواصلان السير إلى الأربعين .. وكان يقرأ ويتحدث عن الأدب .. ويرى فى يده أكثر من كتاب لبروست وزولا ..
كان محمود أثناء التمشيه على شاطئ القنال يرى المراكب الذاهبه إلى أوربا وهى محمله بخليط غير متجانس من البشر وتطلق صفاراتها وتسير فى القناة منطلقه إلى عرض البحر ، فولدت عنده الرغبه الشديده فى أن يركبها ويجوب الآفاق ، فيجلس على شط القناة ويحلم ويمنى نفسه بأعذب الأمانى وألذ الأحلام ، والصور الذهنية تبرز وتتداعى فى ذهنه رائعه خلابه ساحرة عن جمال المدن الخارجية وروعتها وروعة ما فيها من كثرة قراءاته عنها .

وعاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى الخارج .

* * *

الرحيل إلى أوربا

كانت أوربا عام 1934 تعانى أزمة اقتصادية طاحنه ، والرخص والكساد بعمان كل مكان ، والأزمة الاقتصادية تأخذ بخناق الناس ، وبجنيهات قليله تعيش فى أوربا وتستطيع أن تأكل وجبه غذاء كامله فى أفخم المطاعم بما قيمته ثلاثين مليما .

وكثرت الاعلانات بالجرائد والمجلات المصرية والأجنبية تشجع قرائها على السفر إلى البلاد الأوربيه بجنيهات قليله ، وكان أصحاب شركات البواخر من جنسيات مختلفه التركى .... اليونانى .. المصرى .. إلخ يتنافسون على جذب المقيمين بالبلاد للسفر إلى الخارج ، وكل شركة تذكر إسم الباخرة ومميزاتها وخط سيرها ، وبعضها يظهر صورتها فى الإعلان بطريقه مشوقه وهى فى وسط الماء ، وبعضها يعلن عن السفر من الإسكندرية أو من بور سعيد ذهابا وأيابا والإقامة فى اللوكاندات المفتخرة فى البلاد التى ترسو فيها ومدد الإقامة فى كل بلد من البلدان وميعاد السفر وميعاد الوصول ، وتتراوح مدة الرحلة بين 14 يوم وحتى 42 أو تزيد .

إعلنت إحدى الشركات عن أسعار السفر وعلى الظهر الدك درجة أولى 700 قرش ، درجة ثانية 500 قرش ، درجة ثالثة 200 قرش(1)

كان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته ، وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، معه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم سنه كاملة .

فى صباح يوم من ايام شهر يوليو ذهب محمود إلى مكتب أنيق فخم من مكاتب السياحة تديره حسناء المانية ، وقلب بصره فى صور البلدان ، وبعد بحث طويل واستقصاء دقيق وإمعان فكر .. تخير أرض الدانوب ، وأخرج من جيبه أوراق البنكنوت وتناول تذكرة السفر ومعها تذكرة سكة حديد فى القطار إلى الإسكندرية ، وتحدد ميعاد السفر يوم 3 أغسطس 1934 .

إستخرج جواز السفر فى 25 يوليه 1934 وحصل على أجازه من جهة عمله ، وأخذ فى المرور على السفارات وقنصليات البلاد التى إنتوى زيارتها وحصل على التأشيرات ولكن بعض هذه الدول ليس لها قنصليات فى القاهرة وقنصلياتها فى الإسكندرية ، كالقنصلية الرومانيه ، فأرجأ التأشير إلى حين ذهابه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة ، وأرسل إلى والده خطابا يطلعه فيه عن عزمه على الرحيل إلى أوربا الشرقية ، ولم يخبر أحداً سواه .

خرج ليشترى حاجات السفر ، ويعد كل شئ للرحيل ، فإشترى حزاما جلديا من الجلد الطبيعى له جيوب ليضع فيه النقود ـ كان الأجانب فى ذلك الوقت مشهورين بصناعة الجلود وإتقان الصنعة وكان محمود شاهد هذا الحزام مع الحجاج الذاهبين إلى بيت اللّه الحرام ـ وأخذ طريقه إلى البيت ، ورتب حقيبتين ، الكبيرة وضع فيها ملابسه والصغيرة وضع فيها الكتب المترجمه من الروسية إلى الإنجليزيه ومجموعة طبعات الباتروس والقرآن الكريم ، ووضع النقود فى الحزام وشده على بطنه ولبس ملابسه ليكون آمنا من السرقة فى ليل أو نهار أثناء السفر بالباخرة والقطارات وإقامته بالفنادق .

وصل محمود إلى الإسكندرية ، وخرج من القطار ، وركب السيارة إلى فندق على شط البحر فى محطة الرمل ، وكان سعيداً جزلاً ، طروبا ، وفى الصباح ذهب إلى القنصلية الرومانية وحصل على التأشيرة وعاد إلى اللوكانده لجمع متاعه وإتجه إلى الميناء ليركب المركب والتى كان محدداً لها مغادرة الميناء فى الرابعه من مساء اليوم ، وكاد يطير فرحا ، لأنه سيحقق أمنية عزيزة على نفسه ويركب البحر وحده يجوب الآفاق ..

ويقول علاء الدين وحيد .." وإنتهت إجراءات السفر جميعا ولم يبق إلا الصعود إلى الباخرة .. ولكن سلطات الميناء وأكثر موظفيه من كونستبلات الإنجليز تمنعه .. فى البداية الجمتة المفاجأة ولم يستطع أن ينبس .. أحس بالفراغ .. هل ضاع الأمل حقيقة فى الرحيل ؟ ولكن لماذا ؟ وكيف ؟ ويسترد أنفاسه ثم يعرف ما ومن يختفى وراء هذا القرار .. إنه أبوه ؟ كان صاحبنا قد بعث إلى والده خطابا فى آخر ساعة ينبئه بعزمه على السفر ، وكان رد الأب الذى لم يعلمه الابن .. حديثا تليفونيا إلى عم عمر ضابط البوليس فى الإسكندرية يطلب منعه من السفر وحجزه ؛ ولذلك عندما دخل صاحبنا مكتب بوليس الميناء ثائرا مناقشاً قضيته ، فوجئ بأبيه الذى حضر تواً من الصعيد وعمه جالسين ؛ وعندما تحدث إلى موظف الجوازات عن حق المواطن المصرى الشريف فى السفر بلا قيد أو شرط ، وبلوغه سن الرشد منذ وقت طويل ، وضرورة عدم منعه حتى يلحق بالسفينه قبل أن تغادر الرصيف، وجوبه بصمت الموظف .. حمله صارخاً مسئولية حجزه بلا وجه حق ، ولكن هذا كله لم يفد شيئاً .. وبكى صاحبنا .. لقد خشى عليه الأب من السفر .. ولنذكر أننا فى عام 1934 ، والمفهوم التقليدى السائد آنذاك عند أكثر الناس عن بلاد بره ، أنها مهد الفساد الخلقى والفكرى معا ، زيادة إلى ما ينفثه الجهل فى الأشياء المجهولة من خزعبلات .. خاصة وأنه لم يكن يعرف الطريق إلى مثل هذا السفر إلا الطبقة الثرية فى بلادنا .

ولكن العم وضابط أجنبى يعملان على إقناع الاب حتى يقتنع ، ويسمح للابن الحزين بالسفر ويقوم بتوديعه "

ويغادر الأب والعم الميناء ومحمود لا يصدق بأن والده سمح له بالرحيل وإطمأن قلبه .

عندما ركب الباخره ، وكانت هذه هى المرة الأولى فى حياته سمع صفيرها يرن فى جو الميناء ويتجاوب صداه فىقلب البحر ، ورفعت الباخرة السلم ودارت محركاتها ، وتصاعد دخانها ، وأخذت فى حركة استعراضية تبعد عن الرصيف ، فصعد إلى ظهر السفينه وإتكأ على سورها الحديدى مع الواقفين يرقب حركة المسافرين ويستقبل تحيات المودعين ، ولم يكن له مودع كغيره من ركاب السفينه .







وشعر بسرور وهو يجاوب على تحيات المودعين بمثلها وأخرج منديله الأبيض كغيره من ركاب السفينه يلوح به فى حراره والعيون تغرورق بالدمع، وإنطلقت فى عرض البحر .
لم يصبح وحيدا منذ ركب الباخره ، فاختلط بالركاب وشاهد ألوانا مختلفة
من الناس من كل لون وجنس ، ووجوه كثيره وثقافات متعدده ، وتصادق مع من إرتاحت له نفسه .



ويقول البدوى " سافرت إلى " كونستنزا " على باخرة رومانيه قبل الحرب العالمية الثانيه .. وكان الكساد والبطالة يعمان العالم .. والاسعار رخيصة فى كل مكان ..

وكان إقلاع السفينه من ميناء الإسكندرية .. وعلى ظهرها القليل من المصريين دون سواهم من الاجناس الأخرى .

ولكن فى ميناء " بيريه " ثم بعدها ميناء " أثينا " طلع إلى ظهر السفينة ركاب جدد من كل بقاع الأرض .. فامتلأت السفينه بهم بعد فراغ ..

وعلى مائدة الطعام فى السفينه .. وجدت بجانبى شابا وشابه فى سن متقاربه .. ويبدوان كأخ واخته .. ولكن بعد الحديث الذى دار على المائدة عرفت أنهما زوج وزوجة ، وائتلفنا وأصبحنا نقضى زمن السفر كله معا ..

ووجدت مع " خير اللّه " الزوج وهو فنلندى مسلم روايه مشهورة "لأناتول فرانس " .. فزادت هوايته للأدب منى قربا .. وأصبح حديثا فى لون جميل جذاب تتخلله مشاعر الصبا ، وأحلام الجمال لكل ما نراه فى هذا العالم.

وفى "إستانبول" نزلنا نحن الثلاثه وكان "خير اللّه" يعرفها جيدا فوفر لنا البحث عن دليل .. وطفنا بكل ربوعها ومعالمها "ضلمه بفجه" "وكوبرى غلطة" وصلينا الظهر فى جامع "أياصوفيا" .

ووقفنا على البسفور وقال خير اللّه :

ـ إن من لا يرى البسفور لا يرى الجنة .. ويقصد بكلامه هذا جنة الأرض طبعا فتعالت جنة الآخرة عن كل وصف وتشبيه .

وإنتهت رحلة خير اللّه وزوجته فى "إستانبول" وعدت أنا إلى السفينه وحدى لأواصل السفر إلى البحر الأسود(1) "

كان محمود يتكلم بالإشارة فى كل بلد يزورها ، وقل أن يجد من يتكلم الانجليزية أو الفرنسية اللتان يجيدهما .

فى كل بلد يحل بها يخرج يتجول مع أنفاس الصباح يجتلى مجالى الطبيعة ، يذهب ويتحرك هنا وهناك على غير وجهة وعلى غير هدى ، يشاهد مدنها ويتقدم ويتوغل فى طرقاتها وينظر إلى حدائقها ومنازلها ويرمى المارين بنظرة سريعة هادئا مسروراً ، ويستعرض حوانيت بائعى الكتب القديمة والحديثه ، ويقف يقرأ عناوينها ويغرق فى بحار من الفكر ، ومن مكتبه بوخارست اشترى كتب "لاسكاروا يلد ولورنس وجويس(1) وإذا عضه الجوع ورمق أحد المطاعم يميل إليه ليأكل ويجلس بعد الطعام ليستريح .

* * *

ومنذ عودة البدوى من الرحلة وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية ، وطاف وجال فى أوربا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية .

وحينما ذهب البدوى إلى دمنهور فى الثلاثينيات من القرن العشرين والتقى بأدبائها فى مقهى المسيرى وجد الغالبية منهم لم تكن قد خرجت من المدينة وتعجب وقال "من أين تأتى التجارب ، ويزخر الرأس بالأفكار .. فليسافر الأديب وليسافر ، ففى السفر تلتقى بأصناف مختلفة من البشر وتحتك بهم وقد تتعاطف معهم وقد تنفر منهم ، وقد تجد بينهم بطلة لقصه" .

حياة البدوى بعد وفاة والده

توفى والد محمود البدوى فى 19 يناير سنة 1941 ووجد نفسه مسئولاً، فذهب إلى إعلانات الأهرام وسدد تسعون قرشا صاغا فقط مقابل نشر إعلان بالصحيفة عن الوفاة، ونشر الإعلان فى 20/1/1941 بالعدد 20246 وجاء فيه.

الشيخ أحمد حسن عمر

انتقل إلى رحمه ربه الشيخ أحمد حسن عمر عمدة الأكراد وعميد عائلة عمر ، والد الشيخ محمد من العلماء ومحمود بالماليه وأبى الفتوح بالمدارس العالية وشقيق حضرات رياض العمدة السابق وحسين رئيس السجل التجارى ببنها والصاغ عمر أركان حرب الحاكم العسكرى بالقنال واليوزباشى حفظى رئيس مباحث شبين الكوم ومحمود وكيل نيابه كفر الشيخ وزينهم من الأعيان وعم الطيب ويس وفؤاد من الأعيان وحسن رياض بالمواصلات وابن عم محمد الصادق نائب العمدة وخال الأساتذه عبد الحكيم أبو المعالى بالمحاكم الشرعيه وثابت أبو المعالى المدرس بمعهد أسيوط ومجدى من الأعيان وعبد الهادى طالب ثانوى وابن خال الشيخ عزب عثمان وصهر الحاج حسن إبراهيم بالطوابية ومصطفى بك التونى عمدة أتليدم والأستاذ شوكت التونى المحامى وقريب عائله عبد الهادى ومحمد سيد بشطب وستقام ليالى المأتم بديوان العائله بالأكراد مركز أبنوب"

كما وجد نفسه مسئولاً عن إدارة الأطيان الزراعية التى آلت إليه عن طريق الميراث والأراضى التى أعطاها له والده حال حياته فى عامى 1935 و1937 ونقلت إليه ملكيتها بعقود مسجلة ، ويتعين عليه أن يقيم فى الريف وبجوار الأرض لمراعاة الأنفار وإعطائهم أجورهم وتفقد الزرعة خشيه هلاكها ويضيع ماله ، وكان يسجل مصروفات الزراعة فى دفتر صغير .. (السماد ـ التقاوى ـ أجر عربة نقل السماد والتقاوى ـ جاز لادارة ماكينة الرى ـ زيت ـ تصليح الماكينه ـ أجر أنفار الرى ـ كوز للزيت ـ صفيحة جاز ـ أجر مشال ـ سباخ للزراعة الصيفى ـ ضم المحصول الشتوى ـ أجر عامل تطهير القنوات ـ ضم المحصول الصيفى ـ أجر أسطى الماكينه ـ أجر أنفار) ومن الملفت للنظر أن أجر عامل السقيه فى ذلك الوقت من عام 1941 35 مليم واجر أسطى ماكينه الرى 45 مليم وأجر النفر 30 مليم . كما كان يسجل بالدفتر أثمان بيع المحصول الصيفى (قمح ـ ذره صيفى ـ ذره شامى ـ تين ـ قطن) والمحصول الشتوى (فول ـ عدس ـ حلبه) .

بعد مدة من الزمن قام البدوى بتأجير الأرض إلى الفلاحين ، وفى نهاية شهر سبتمبر من كل عام يترك بيته فى القاهرة ويسافر إلى الصعيد ، وبمجرد أن يراه أحد الفلاحين سائرا على الجسر متجها إلى الدار يسرى الخبر بينهم فيتدافقون ويتسابقون فى الوصول إليه ، كل منهم يريد أن يستأجر قطعة ، ومنهم من كان يزيد فى قيمة الإيجار ليفوز ولو بقطعة صغيرة ، وكان المستأجر يسدد الإيجار بالكامل عند التوقيع على العقد والذى كانت مدته سنة زراعية واحدة .

بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعى كان يذهب إلى الفلاحين فى موسم جمع المحصول ويستعمل كل وسائل المواصلات للوصول إليهم ويلاقى المشقه وتعب الأعصاب فى كل مشوار للعثور عليهم ـ يكون ذلك نهاراً ـ وإذا وجدهم يحتفون به ويفرشون له حراما فى ظل عريشة إتقاء من حرارة الشمس الملتهبه ، ويجلسون ويلتفون حوله مرحبين ، ويقدمون له الشاى ويدعونه إلى الطعام ، إلا أنهم حينما يسمعون كلمة الإيجار فكأنما لسعتهم عقرب ، ويقضى النهار كله فى منازعات وجذب وشد وكل واحد يريد أن يترك له جزءًا من الإيجار لأن زراعته بارت وفسدت ، ومنهم من كان يدعى أن جاره أخذ جزءًا من القطعة المؤجره له ، أو أن النيل قد أكل جزءًا منها ويطلبون قياسها ، فكان يعطف ويشفق عليهم ويتأثر بكلامهم ويتنازل لهم عن جزء من الإيجار .

وبعد ما عاناه من مشقه عهد الأمر كله إلى وكيل عنه من أهل البلد ليحصل الإيجار ويريحه من مشقة السفر ومن المشوار وإيداع الأموال ببنك مصر فرع أسيوط لتحويله وإضافته إلى حسابه بفرع البنك بالقاهرة)

* * *

محمود البدوى
و
أمين يوسف غراب


يقول أمين يوسف غراب فى كتابه نساء الآخرين الصادر عن المكتب التجارى ببيروت عام 1958 تحت عنوان "أشهر حب"

تربطنى بالزميل الأستاذ محمود البدوى القصاص المعروف صلة صداقة متينة منذ زمن بعيد ، ترجع إلى عهد الصبا وأحلام الشباب ، وبالرغم من أننا لسنا من بلدة واحدة ، فهو أسيوطى من أغوار الصعيد ، وأنا دمنهورى من أغوار الوجه البحرى وتختلف مشاربنا فى أشياء كثيرة إلا أننا أنفقنا معا أجمل أيام العمر وأهنأ ساعات الحياة ، وكنا نقطن معا فى مسكن واحد فى القاهرة، ولكننا لم نكن نستقر فى بيت واحد أكثر من شهور ، فقد انتقلنا إلى عدة بيوت فى أنحاء القاهرة تزيد على العشرة .

وكان هذا يسبب لنا متاعب كثيرة وأشهد بأننى كنت المتسبب فى هذه المتاعب فهو كما قدمت صعيدى ـ يتمسك بصعيديته الأصلية وتقاليدها القاسية ولا يحيد عما وضعته المثل والأخلاق ، وهو لا يشرب الخمر ولا يعرف النساء ولا يحب السهر ، وكل لذته فى الحياة أن يطوف طوال النهار على المكتبات ودور النشر يتفحص عناوينها من خلف الزجاج ومع ذلك لا يشترى شيئا .

وعندما يجهد وتخور قواه من كثرة السير على الأقدام والتجول فى شوارع القاهرة يذهب إلى قهوة متاتيا بالعتبة الخضراء ويشرب فنجانا من القهوة ليستريح . وكان يفضل هذه القهوة على غيرها لأنها أمام سور حديقة الازبكية الذى تباع على جداره الكتب القديمة بأبخس اثمان فقد كان من زبائن هذا السور الدائمين يقطعه عشرات المرات يروح ويجئ لا ليشترى شيئا .. ولكن ليقف أمام كتب الأدب يجتر أحزانه أسفا على الأدب وسوقه البائرة وقداسته التى ذهب احترامها وضاعت هيبتها وانتهكت حرمتها انتهاكا على هذا السور اللعين .

وكنا إذ ذاك نقطن فى شارع قنطرة الدكة ، نجيب الريحانى الآن ، ومع أن العمارة التى نقطن إحدى شققها كانت عمارة ضخمة يختلط فيها الحابل بالنابل والداخل فيها أكثر من الخارج منها ، وفيها أكثر من بنسيون ، وفيها أيضا أكثر من امرأة جميلة ، إلا أن محمودا كان يحرص جدا على أن يحترم قداسة البيوت لا شأن له بغيره من الناس ولا بمن يجاورونه فى السكن . وقد أعطانى درسا فى هذا عملت به حينا . إلا أننى ذات يوم تعرفت على فتاة رومية كان اسمها لوسى وكانت تقطن فى الحى وتوطدت صلتى بها وانتهزت فرصة عطلتها الاسبوعية ودعوتها لزيارتى فى البيت .

وقد لبت الدعوة عن طيب خاطر ، وقضينا يوما جميلا ، وعرف محمود ذلك فغضب غضبا شديدا ولم ينم ليلتها .

وكانت كل أحزانه وهمومه كيف سيلتقى ببواب العمارة بعد ذلك وهو الذى كان يجله ويحترمه وينهض واقفا كلما رآه ، وينظر إليه تلك النظرة التى كانت تطرب محمود لإنها تنم عن احترام كبير .

وعبثا حاولت أن أقنعه بأن نظرة البواب لن تتغير وستظل تنم عن ذلك الإحترام الذى كان . فهو الذى أستقبل . لوسى عند مجيئها وهو الذى رحب بها وهو الذى أوصلها إلى مكان الشقة وهو لم يفكر أبدا فى شئ من هذا الذى يفكر فيه ، ولكن محمودا لم يقتنع بحرف مما قلت .

وفى الصباح لم يذهب إلى عمله فى وزارة المالية ، ولم يطف على المكتبات ودور النشر يتفحص عناوين الكتب من خلف الزجاج ، وإنما قضى النهار كله فى البحث عن سكن آخر غير هذا الذى أفتقد فيه إحترام البواب وأنتهكت فيه حرمة البيوت .



ليست هناك تعليقات: