الثلاثاء، ٢ أكتوبر ٢٠٠٧

الفصل الثانى : مرحلة التعليم

الفصل الثانى : مرحلة التعليم
كتاب القرية
التعليم الإبتدائى بمدرسة أسيوط
التعليم الثانوى بالقاهرة
تعلم الموسيقى
المرور على المكتبات
كلية الآداب
كتاب القريـــــة


بعد وفاة والدة محمود وما حدث فى جنازتها المفجعة والألم الذى أصابه وألم به ودفن داخل قلبه ، ظهر على السطح فى تصرفاته وافعاله ، وحينما بدأت تنقشع الغمه وترتاح نفسه قليلا ، ذهب كأخيه محمد وأعمامه الذين سبقوه إلى كتاب القرية ـ كتاب مسجد الخطباء ـ ليتعلم فيه القراءة والكتابه وليحفظ فيه القرآن الكريم .

ويقول .." أعتدت وأنا صغير أن أصلى الفجر فى مسجد الخطباء بالقرية وكان يقع فى الطرف الشمالى من حدودها وحوله البساتين وعلى إمتداد البصر المزارع .
وهو طيب الهواء فى الصيف والشتاء ، وفى الصيف على الأخص ، لأن أثره ولفحه يمتد فى الصعيد .

وفى هذا المسجد كان الكتاب الذى تعلمت فيه القراءة والكتابة ، وحفظ آيات من القرآن الكريم ، وكان المعلم من أسرة الخطيب الذى سمى باسمها المسجد .

وفى هذا المسجد بئر إشتهرت بمائها العذب ، فتحولت اليها نساء القرية يملأن منها جرارهن ، ويفضلن ماءها الصافى عن كل ماء ، مع أن القرية تقع على شاطئ النيل ، وينطح ماء الفيضان (قبل عمل السد) جدرانها وبيوتها .

ولكن لكل ماء عند هاتيك النسوة .. وكن يأتين إلى بئر المسجد فى صحوة الفجر ويفضلنها على عتمة الليل .

وكان يعمل على البئر " ملا " اسمه " سيد " مربوع الجسد كأنه صب صبا.. لا يكل ولا يمل وهو يحرك الدلو .. دون أن يراه .. إمتلأ أم خرج فارغاً .. وحسبه صوت الماء .

وكان جميل الصوت قويه ولهذا كان يؤذن الفجر فى المسجد .. وإذا جاءت النسوة إلى منطقة البئر فى ساعة الفجر لا يجدن سواه قائما .. فيداعبنه لأنه أعمى ومكسور الخاطر .. ويجد هو فى هذه الدعابة سلواه الوحيده وأنيسه ، وينشط لمساعدتهن ويحمل عنهن الجرار الثقيلة إلى أن تستوى فى وضع هندسى على رؤوسهن
(1) وكان الفلاحون يشربون من القنوات ويغتسلون أو يشربون من ماء الساقية .

بعد عودة محمود من الكتاب يذهب إلى الحقول والغيطان ويشاهد الفلاحين متناثرين هنا وهناك فى قلب الحقول وفى أطرافها ، ويراهم وهم شبه عراه ، يعزقون الارض ويسقون أو يشقون القنوات الصغيرة ، ويغوصون بأرجلهم فى الوحل وأجسامهم تنضح عرقا ، كانوا يعملون من مطلع الشمس إلى الغروب . وفى الليل يرى بصيصا من النور فى بعض الحقول البعيدة حيث يصطلى الفلاحون يالنيران أو يصنعون الشاى على أعواد البوص والحطب ويقطع سكون الليل صوت الكلاب ، والفلاحون الذين يبيتون فى المزارع يطلقون فى الليل الرصاص من بنادقهم على غير هدى لمجرد الإرهاب.

ويقول .. " عشت فى الريف مرحلة طيبة وخصبه من حياتى .. أثرت فى تأثيرا بالغا وزودتنى بزاد من الكتابه لا ينفد .. ومازلت أتمثل الريف الآن وأنا اكتب كأنه أمامى حتى بعد ان تركته .. النيل .. والمزارع .. والاجران .. ورجال الليل .. وأزيز الرصاص .. ونباح الكلاب
(1) " وكل إنسان يحب الليل . وأنا بطبعى أحبه ، وأحب سكونه ، ولأن نشأتى ريفية ، قضيت هذا الليل فى المزارع والحقول والبساتين ، وكنت احس بعمق هذا السكون والظلام وما ينشأ فيه ويخرج منه من قطاع طرق وغارات فى الليل للسرقة والأخذ بالثأر ، وهذا الجو لا يمكن ان أنساه(2)

التعليم الابتدائى بمدينة أسيوط

تقدم محمود للالتحاق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وكانت تجرى فى ذلك الوقت إختبارات تحريرية وشفوية لراغبى الالتحاق بهذه المرحلة من التعليم ، ويمر منها من يجيد القراءة والكتابة ويعرف قواعد الحساب وحلها ، وإجتاز الإمتحان ودخل المدرسة ، وكان يقيم فى المدينه شقيقه الاكبر محمد الذى كان يدرس بمعهد أسيوط الدينى الازهرى ، فأقام معه ، وكان يقوم على خدمتهما ورعاية شئونهما رجل من عند والده ومن أهل القرية ، وأنهى شقيقه دراسته من المعهد وإنتقل إلى القاهرة لاستكمال تعليمة قبل أن يتم محمود دراسته الإبتدائيه .

وجد محمود نفسه وحيداً ، وكانت تجربته الاولى التى يعيش فيها بمعزل عن أحد أفراد أسرته ، ومن هنا نشأت عنده ضرورة الاعتماد على النفس ، وكان والده يجئ للاطمئنان عليه والاطلاع على أحواله فى بعض أيام الأسبوع.

يخرج محمود من المدرسة يوم الخميس ، يجد الحمار الأبيض الخاص به والذى كان يركبه وهو صغير مع أحد الخدم فى إنتظاره ليركبه ويصل به إلى القرية لقضاء ليلته فيها ـ كان يوجد لدى والده خيول ولكنه كان يخشى عليه من ركوبها ـ ويشعر بسعادة طاغيه ، فيركب الحمار ويستوى عليه ويتخذ هيئة الفارس ويحرك رجليه ليحثه على الاسراع ، ويسرع والغبار يتطاير من أرجل الدابه ، ويركب المعدية لعبور النيل وإختصار الطريق ، فالقرية فى العدوة الأخرى من النيل ، كل ذلك ليقضى ليلته فى الحقول ووسط الفلاحين ومع رفقائه فى القرية ، وكانت سعادته الحقه وهناؤه فى أثناء فترة الاجازه الصيفية .

كان أهل القرية جميعا دون إستثناء رجالاً وأطفالاً يجيدون السباحة والغوص تحت الماء ، ومحمود يتسابق مع رفقائه ولا يشعرون بخوف ولا رعب ولا يرهبون الماء ولا يخافون الغرق ، وقد يخرجون بزورق صغير ويجدفون ويبعدون عن القرية ويتوغلون إلى الجانب الآخر من النيل ، إلى جزيرة القرية الصغيرة ( جزيرة الأكراد ) حيث يوجد جزء من أراضى العائلة ، وهناك يستقبلهم الفلاحون بالبشر والترحاب ويجلسون حولهم خارج العرائش ، ويتندرون ويفيضون بأعذب الاقاصيص والسير ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ، ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقه ، ويمر عليهم فى جلستهم رجال الليل بأثوابهم الداكنه ، مغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف وهم مسلحين بأحدث طراز من البنادق وهم الذين اذا دخلوا قرية فى وضح النهار أرعبوها وأفزعوا أهلها والذين كانت الفرائص ترتعد لذكرهم والقلوب تنخلع لوقع أقدامهم ، ويجلسون معهم يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراه ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجارالعائدين من الاسواق .

ويقول محمود .. " كان رجال الليل يمرون علينا ونحن فى الاجران والغيطان ، وكنا نتبادل الاحاديث ونشرب الشاى ، وباختصار فقد كانت السنوات الثمانى عشر الاولى من حياتى ريفيه بمعنى الكلمة
(1) " " وقد يعجب القارئ إذا علم أن رجل الليل لا يغدر ولا يخون من أمنه .. ويعتبر الغدر خيانه تصمه بالعار ، وتجرده من صفاته كرجل ( إنقرض هذا الرجل الآن .. وبقى ظله وفيه كل صفات الخساسة والوضاعة ) ويدفعه إلى القتل والشر ، حوادث فردية تصيبه بمثل القارعة فتغير من نظام حياته .. وكل إنسان فيه الخير والشر .. وتبعا للظروف والاحوال تبرز هذه الصفة وتضعف تلك .. والشر اكثر الطباع ضراوة عند الإحساس بالظلم(2) " .

يخرج محمود وحده فى بعض الليإلى بزورق صغير يجدف ويسير فى النيل إلى أن يصل إلى سد أسيوط فيمد الحبل ويربطه فى أحد الاشجار على الشط، ويتنزه على الجسر حتى تنقضى فترة من الليل ويعود من حيث أتى مرتاح النفس ناعم البال .

* * *

التعليم الثانوى بالقاهرة

بعد أن أتم محمود تعليمه الابتدائى ، إصطحبه والده إلى القاهرة ليلحقه بالمدرسة السعيديه الثانوية بالجيزه وليسدد له المصاريف ويشترى له حاجاته وليطمئن على مكان إقامته ـ وكان شقيقه الاكبر الذى شاركه بعض الوقت فى السكن بأسيوط وتركه ليكمل تعليمه بالأزهر عاد إلى القرية لمراعاة الارض والزراعة واكتفى بهذا القدر من التعليم ـ وكان والده كثير التردد على القاهرة لمقابلة اصحاب الشأن وانجاز بعض الطلبات التى تحتاجها القرية وحضور المناسبات التى يحضرها الملك والاعيان وذوى النفوذ ، ويعرف أماكن الإقامة والمبيت فيها من فنادق وبنسيونات ، فاختار لمحمود إحدى الغرف المفروشة بالقرب من المدرسة .

وأحس محمود بالفراغ وبحكم طباعه الريفية المتأصلة نفر من أهل المدن فلم يستطيب صحبتهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه وقارنها بحياة الناس فى المدينة ، ويشعر بالضيق الشديد ، ومع مرور الوقت رضخ لحكم الواقع ، ثم أخذ يحاول ان يرفع الحاجز بينه وبين أهل المدينة بالتدريج واستطاب العيش فيها إلا أن حنينه إلى الريف لم ينقطع .

* * *

عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم ، فاختار لسكنه إحدى الغرف المفروشة بالحلميه الجديدة ليكون بجوار الدار وكانت هذه الغرف موجودة بكثرة فى قلب العاصمة فى حى عابدين وفى حى قصر النيل على الأخص حيث يكثر الافرنج ، فكانت هذه الاسر تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن اهليهم ، وكان كثير التنقل بينها ويستقر ويحط ترحاله بعد أن يجد الاسر الهادئة الكريمة الخلق والحجرة الطيبه الهواء والمفروشة ببساطه وأناقة .

وعن هذه الفترة يقول .. " فى فترة الدراسة لم يكن لى أهل بالقاهرة فنزلت فى كثير من البنسيونات وصورت الحياة فيها ، ففى هذا الوقت كان كل أصحاب البنسيونات أجانب ، وإختلطت بمجموعة كبيرة جدا من البشر على إختلاف أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم وطبائعهم
(1) .. خالط مختلف الاجناس من الأجانب أروام وطلاينة وانجليز وفرنسيين ومالطيين .



تعلم الموســـيقى

كان محمود البدوى يجد لذته الكبرى فى الاستماع إلى الموسيقى .. فاجنر وبيتهوفن وتشايكوفسكى وهاندل ........ ولحبه وعشقه لها أراد أن يتعلمها، وتعلمها فعلا على يد رجل موسيقى من أصل تركى ، وكان يذهب اليه بعد الفراغ من دروسه المدرسيه وبعد أن تقفل دار الكتب أبوابها ، ويسكن المعلم قريبا من الدار ، ثم جاءت فرصته فى أن يتعلمها بمعهد الموسيقى العربية .

ويقول .. " كنت أحب الموسيقى .. وذات يوم سألنا الاستاذ الابحر مدرس الرياضة بالسعيدية .. قبل أن يبدأ الدرس .
ــ من منكم يود أن يدرس الموسيقى مجانا .. ؟

فرفعنا أيدينا فرحين ..

ــ أين يا أستاذ ..
ــ فى معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية .. وعسكر .. يكتب اسماء الراغبين فى آخر الحصه .

فتقدمت مع من تقدم من الطلبه .. وكان الاستاذ الأبحر هاويا للموسيقى ومن أساتذة المعهد ، وكان المعهد فى حاجة إلى معونة سخية من وزارة المعارف .. فرأى أن يضم لفصوله الدراسيه ، بعض طلبه المدارس الثانويه الأميرية .. ليعزر طلب المعونة .


محمود البدوى مع أصدقاء بمعهد فؤاد الاول للموسيقى العربية

وتتلمذت على أساتذة أجلاء .. مصطفى رضا بك .. وصفر على بك والعقاد الكبير عازف القانون المشهور .. وامين بك المهدى أعظم عازف على العود فى الشرق .. وكان أمير الشعراء شوقى بك .. يزور الفصول يوميا .. ويقف على باب الفصل صامتا دقيقه واحده وفى فمه السيجار .. وندر ما ينطق أو يوجه الينا سؤالاً .. ثم يذهب سريعا كما جاء ..

وبعد الدراسة التمهيديه الطويله .. إخترت الكمنجه كآلة .. وكان هذا من سوء إختيارى لأن دراستها صعبه .. وكنت استعد للبكالوريا بكل جهودى فأهملت الموسيقى .. وإنقطعت عن المعهد
(1) "

كان يغادر الغرفة إلى الريف مخلفا فيها أمتعته وكتبه فى اثناء الاجازات الدراسيه ، متلهفا على قضائها بين أحضان الريف ــ بعد أن ضاق ذرعاً بالقاهرة وضج بما فيها ــ حاملا معه آلة الكمان وهو فرح طروب ليملأ عينيه بما حوله من جمال وسحر وليشاهد الزوارق الشراعيه وهى تسبح فى النيل ، ويعبر خزان أسيوط إلى العدوة الأخرى من النيل ليرى محاسن الطبيعة ويستغرق فى تأملاته ولتتحرك مشاعره وتزيل تبلد روحه ويجد نفسه فى حالة من الانشراح والتفتح .

كلما سنحت لمحمود الفرصة ، وغادر والده البيت يتناول الآلة الحبيبه إلى نفسه ، ويعالج أوتارها وقوسها ويفتح النوته أمامه
(1) ويبدأ العزف ، ويصل الصوت إلى سمع بنات أعمامه وعماته ـ وكن صغاراً ــ فينادوا بعضهن بعضا ، ويسرعن فى الصعود إليه ، ويتجمعن أمام غرفته ينظرون وهو يقيم الآلة بين كتفه وذقنه ويرسل من أوتارها الأنغام .

* * *

المرور على المكتبات

كان يهوى المرور على المكتبات ويتفحص عناوين الكتب دون كلل أو ملل ولوظل نهار اليوم كلة يسير على قدميه ، فكان مغرما بقراءة الكتب القديمة النادرة الطبع واقتنائها ، فهى فى نظره تحمل فى طياتها أسرار القرون وعبير الدهور ، فيشترى منها ما يستطيع دفع ثمنه .

وفى أحد الأيام وكان يسير فى مدينه أسيوط أثناء عطلة الأجازة الصيفية ، ذهب إلى مكتبه أدبيه يمت له صاحبها بصله قرابه لشراء بعض الكتب الأدبية فوجد عنده داخل المكتبه شخصين معممين جالسين ويقرأ الأول فى كتاب البيان والتبين للجاحظ وبجواره الثانى ينصت ويستمع اليه وعرفه صاحب المكتبه بهما ، والأول هو محمد على غريب المحرر فى جريدة عظمة الشرق بأسيوط والثانى هو أحمد الحجار من تلاميذ الجاحظ ومن أشد الناس إعجابا به، وتوطدت بين الجميع صداقه قويه ( إستمرت حتى نهاية العمر )

ويقول البدوى .. " التقيت بمحمد على غريب لأول مرة عام 1924 فى مكتبه أدبيه بمدينه أسيوط .

وكان جالساً داخل المكتبة يدخن الشيشة ويقرأ فى كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكان يلبس معطفاً بنى اللون به خطوط بيضاء خفيفة ، وتحت هذا جلابية بيضاء ( افرنجى ) وعلى رأسه عمامه صغيرة كورها كما إتفق .. فلم يكن حسن الهندام .. وكان فى طرف ذقنه شعرات .. وفى جبينه خطوط مع أنه لم يتجاوز العشرين .. وكان بجواره شاب معمم فى مثل سنه ولكنه أطول منه قامه وأكثر نحولاً .. وعرفته أيضاً وهو الاستاذ أحمد الحجار ، وكان غريب يلازم الحجار ملازمه الظل .. والحجار أديب ممتاز من تلاميذ الجاحظ ومن أشد الناس إعجابا به ، وفى بيته مكتبة أدبية عامرة .. فكان غريب يذهب إلى بيت الحجار ويقرأ هذه الكتب ، وكان الاثنان من طلبه الأزهر ولكنهما لم يكونا يحضران الدروس .. وكان غريب ثائرا على الأزهر .

وكان وهو فى الأزهر يحرر فى جريدة إقليمية تصدر فى أسيوط إسمها «عظمة الشرق » وكان يكتب فى هذه الجريدة بابا إسمه الظرفاء وينشر فيه كل اسبوع بالخط الاسود الكبير أسماء سبعه أو ثمانية من الظرفاء .. وكان يقصد بالظرفاء الذين يستثقلهم الناس ؛

وحدث أن وضع فى هذه القائمة شخصا إسمه المعصرانى على ما أذكر .. فجاء هذا المعصرانى وجلس على قهوة مقابله للمكتبه وأخذ يسب جريدة " عظمة الشرق " وصاحبها ومحرريها من العصر إلى الغروب .. وغريب جالس داخل المكتبة يشرب الشيشة فى برود ولا يتحرك ولا ينبس .. وكأن الأمر لا يعنيه .

ومع هذا فقد إستمرت هذه الجريدة تنشر أسماء هؤلاء الظرفاء .. والنتيجة الطبيعية لهذا أن سجن صاحب الجريدة وهرب غريب إلى القاهرة
(1) وغاب فى زحمة المدينة .. وإشتغل محرراً فى مجلة الرسول ، وكان صاحبها يتخذ من مطبعة صغيرة بباب الخلق مقرا ومكتبا .

* * *

كلية الآداب

نجح محمود فى إمتحان البكالوريا والتحق بكلية الأداب بالجامعة المصرية إبان عماده الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وتقوم على خدمته إمرآة شابه مات عنها زوجها فى حادث ، وكانت فى خلال الفترة الموجوده فيها بالبيت لتسويه فراشه وتنظيف الشقه وطهى طعامه ، ترسل شعرها وتلبس الروب ، وبعد أن تقدم له قهوة العصر قبل أن يخرج ويذهب إلى دار الكتب تنصرف إلى بيتها (كان محمود يجعلها تحس بأنها سيدة البيت وليست خادمة)

* * *

جاء والده من الريف لحضور مناسبة من المناسبات ، ونزل عليه للاقامة خلال فتره وجوده بالقاهرة ، وجاءت الخادمة تقدم الشاى للاب ـ وكان ذلك من سوء حظ محمود فإن هيئتها بالصورة التى ذكرتها لا توحى بإنها مجرد خادمه ـ وصعق الاب لرؤيتها فإنه ما كان يتصور أن فى بيته إمرأه ، وحاول محمود بشتى وسائل الإقناع أن يقنع الأب بأنها إمرأة فقيرة ومسكينه ولا عائل لها بعد وفاة زوجها وأنها لا تعدو وأن تكون خادمة ـ كان يهاب والده ويخشى من غضبه ويرتعش من عمل أى شئ لا يوافق رغبته ـ ولكن الأب طلب من إبنه وبحزم عدم وجودها وعليه أن يبحث له عن خادم .



لم يشعر محمود بأى حب للجامعه ، فقد غمره تيار الأدب ، وكان يجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع ليزيد من ثقافته وليوسع مداركه فاستغرقت كل وقته ، وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا ، ويؤلمه عدم وجود الفراغ ليقرأ أو ليطالع من الكتب ما يشاء ويرغب ، فأصبح لا يذهب إلى الجامعة إلا قليلاً ثم إنقطع كلية عنها .
ولم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القريه فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئاً ، وأن يخطو خطوة عمليه ، فاتجه إلى الوظيفه كغيرة من الشبان وترك الدراسة بالجامعة .

يقول محمود « التحقت بكلية الآداب ولم اكمل المشوار لأننى إنتقلت إلى كلية الحياة وهى أرحب ولاشك من كلية الآداب
(1) ولم آسف على ذلك قط» .

ويقول صديقه الناقد علاء الدين وحيد تحت عنوان مأساة حب فى شباب محمود البدوى(2) " كان قد ترك الجامعة ـ كلية الآداب ـ فى عمليه رومانسية تستشعر ضرورة رفع الاثقال عن الاب فى المصاريف"

ولكن الناقد رجاء النقاش يقول بمجلة الشهر عدد يناير 1959 تحت عنوان القصاص الشاعر "عرفت من بعض المتصلين به أنه أصيب بصدمة عاطفيه فى مطلع حياته وهو طالب فى الجامعة ، وقد أدت هذه الصدمة به إلى أن يترك الدراسه بل ترك مصر كلها وسافر لفترة إلى أوربا ، وكان لديه بعض المال فصرفه كله على هذه الرحلة التى أراد بها أن يجرب وينسى .. وربما تكون هذه التجربه هى السبب فى إنطوائه وعزلته"


(1) م . القصة ـ العدد 41 يوليه 1984 .
(1) مجلة آخر ساعه 2152 21 / 1/ 1976 .
(2) ص . الأنوار 5 / 3 / 1978 .
(1) ص . التعاون 3 / 8 / 65
(2) م . الثقافة ـ اكتوبر 1977
(1) م . القاهرة 14 يناير 1986
(1) م . الثقافة اكتوبر 1977
(1) تم أهداء النوته ضمن كتب مكتبته الخاصه إلى دار الكتب المصرية لتوضع بالمكتبه المهداه .
(1) ص . الزمان 9/ 7/ 1950
(1) ص . الجمهورية 25/ 12/ 1975
(2) محمود البدوى ـ علاء الدين وحيد ـ دار سنابل للنشر والتوزيع 2000

ليست هناك تعليقات: